علم البلاغة.. العلم بالقواعد التي بها يعرف أداء جميع التراكيب حقها وإيراد أنواع الشبيه والمجاز والكناية



علم البلاغة:

البلاغة فعالة مصدر بلُغ بضم اللام كفقه وهو مشتق من بلَغ بفتح اللام بلوغاً بمعنى وصل وإنما سمي هذا العلم بالبلاغة لأنه بمسائله وبمعرفتها يبلغ المتكلم إلى الإفصاح عن جميع مراده بكلام سهل وواضح ومشتمل على ما يعين على قبول السامع له ونفوذه في نفسه.

فلما صار هذا البلوغ المعنوي سجية يحاول تحصيلها بهذا العلم صاغوا له وزن فعُل بضم العين للدلالة على السجية فقالوا علم البلاغة ([1]) فإن المتكلم إذا تكلم فإنما اهتمامه بأن ينقل ما في ضميره إلى ذهن سامعه فهو محتاج قبل كل شيء إلى معرفة اللغة التي يريد أن يخاطب بها من مفرداتها وكيفية تركيبها فإذا لم يعلم ذلك لم يكد كلامه أن يفهم.

فائدة علم اللغة والنحو والصرف:

وهذه المعرفة تحصل له من علم اللغة والنحو والصرف فإن حاول تكلمها بدون هذه المعرفة كان مثله كما قال الحطيئة في الشعر (يريد أن يعربه فيعجبه)([2]) ولكنه إذا علم اللغة والنحو والصرف فإنما يستطيع أن يعبر عن حاصل المراد وأصل المعنى ولا يستطيع أن يفصح عن تمام المراد فلو أراد أن يخبرك بحضور تلميذ واحد من تلامذة درسه وتخلف الباقين فقال لك حضر زياد لم تفهم إلا أنه أخبرك بحضور زياد لئلا تكتبه متخلفاً.

ثم إذا علمت أن بقية التلامذة لم يحضروا فقلت له: ما بالك لم تخبرني بعدم حضور أنس ونافع وغيرهما؟ قال لك: ألستُ قد أخبرتك بحضور زياد ولم أذكر لك غيره؟ فدلك بقوله ذلك على قصوره في معرفة أداء جميع مراده على أنه لو تنبه لزيادة البيان لقال حضر زياد ولم يحضر أنس لم يحضر نافع لم يحضر زهير وأخذ يعدد بقية التلامذة أو استعان بحركة يديه فقال لك حضر زياد ثم ضرب بيديه كالنافض لهما كأنه يشير إلى معنى فقط فحينئذ أدى جميع مراده لكن بعبارة غير سهلة ومع إشارة.

التعبير عن المراد وتوضيح الدلالة:

فإذا كان قد علم الكيفية الخصوصية للتعبير عن هذا المراد وهي أن يقول ما حضر إلا زياد كان قد بلغ إلى أداء جميع مراده بكلام سهل وكذا إذا أراد أن يخبرك عما أبلاه عنترة من الشجاعة والفتك في يوم من أيامه فجعل يقول قتل فلاناً وجرح فلاناً وضرب فلاناً وضرب الفرس فأدماه وهرب راكبه وسبى نساءهم وحطم مشاتهم فإنه قد دلك على جميع مراده بعبارة غير واضحة في الدلالة على جميع المراد بكلام واضح الدلالة عليه، ولما كانت الكيفيات المذكورة لا تقع إلا في كلام خاصة أهل اللسان العربي سموها بالخصوصيات نسبة إلى الخصوص وهو ضد العموم الذي هو بمعنى الجمهور وتسمى بالنكت أيضاً.

فالعلم الباحث عن القواعد التي تصير الكلام دالاً على جميع المراد وواضح الدلالة عليه يدعى علم البلاغة، ثم إن هنالك محسنات للكلام متى اشتمل عليها اكتسب قبولاً عند سامعه ولما كان حسن القبول يبعث السامع على الإقبال على الكلام بشراشره وكان في ذلك عون على إيعاء جميع المراد جعلوا تلك المحسنات اللفظية من لواحق مسائل هذا العلم سواء كان حسنها عارضاً للفظ من جهة موقعه المعنوي([3]) كالمطابقة في قول أبي ذؤيب الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي + أمات وأحيى والذي أمره الأمر

أم كان حسنها عارضاً له من جهة تركيب حروفه كالجناس في قول الحريري:
سِمْ سِمَةً تحمد آثارها + واشكر لمن أعطى ولو سِمْسِمَة
فكلها تسمى المحسنات وتوابع البلاغة ويلقبونها بالبديع.

أقسام علم البلاغة:

فانحصر على البلاغة لذلك في ثلاثة فنون فن المعاني وهو المسائل التي بمعرفتها يستطيع المتكلم أن يعبر عن جميع مراده بكلام خاص، وسمي علم المعاني لأن مسائله تعلمك كيف تفيد معاني كثيرة في ألفاظ قليلة، أما بزيادة لفظ قليل يدل على معنى حقه أن يؤدى بجمل مثل صيغة إنما في الحصر، وكلمة إن في التأكيد ورد الإنكار معاً وأما بأن لا يزيد شيئاً ولكنه يرتب الكلام على كيفية تؤدي بذلك الترتيب معنى زائداً مثل تقديم المفعول والظرف لإفادة الحصر في نحو: الله أحد، وإياك نعبد وهذا الفن هو معظم علم البلاغة.
وفن البيان وهو المسائل التي بمعرفتها يعرف وضوح الدلالة على المراد كقولك: عنترة أسد، وحاتم كثير الرماد.
وفن البديع وهو المسائل التي تبحث عن المحسنات اللفظية كما تقدم.

تعريف علم البلاغة:

فتعريف علم البلاغة هو العلم بالقواعد التي بها يعرف أداء جميع التراكيب حقها وإيراد أنواع الشبيه والمجاز والكناية على وجهها وإيداع المحسنات بلا كلفة مع فصاحة الكلام.

تاريخ علم البلاغة:

(تاريخه) كان هذا العلم منثوراً في كتب تفسير القرآن عند بيان إعجازه وفي كتب شرح الشعر ونقده ومحاضرات الأدباء من أثناء القرن الثاني من الهجرة فألف أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 144 كتاب مجاز القرآن وألف الجاحظ عمر وبن بحر المتوفى سنة 344 كتباً كثيرة في الأدب وكان بعض من هذا العلم منثوراً أيضاً في كتب النحو مثل كتاب سيبويه ولم يخص بالتأليف إلا في أواخر القرن الثالث إذا ألف عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي (المولود سنة247 والمتوفى سنة296 قتيلاً بعد أن بويع له بالخلافة ومكث يوما واحداً خليفة) كتاب البديع أودعه سبعة عشر نوعاً وعد الاستعارة منها).

البلاغة عند عبد القاهر الجرجاني:

ثم جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني الأشعري الشافعي المتوفى سنة 471 فألف كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة أولهما في علم المعاني والثاني في علم البيان فكانا أول كتابين ميزا هذا العلم عن غيره ولكنهما كانا غير ملخصين ولا تامي الترتيب فهما مثل در متناثر كنزه صاحبه لينظم منه عقداً عند تأخيه فانبرى سراج الدين يوسف بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي المعتزلي المولود سنة 555 والمتوفي سنة 626 إلى نظم تلك الدرر فألف كتابه العجيب المسمى مفتاح العلوم في علوم العربية وأودع القسم الثالث منه الذي هو المقصود من التأليف مسائل البلاغة دونها على طريقة علمية صالحة للتدريس والضبط فكان الكتاب الوحيد اقتبسه من كتابي الشيخ عبد القاهر ومن مسائل الكشاف في تفسير القرآن للزمخشري فأصبح عمدة الطالبين لهذا العلم وتتابع الأدباء بعده في التأليف في هذا العلم الجليل.

([1]) وبيان ذلك أن اشتمال الكلام على الكيفيات التي تعارفها خاصة فصحاء العرب فكان كلامهم أوقع من كلام عامتهم وأنفذ في نفوس السامعين وعلى ما شابه تلك الكيفيات مما أبتكره المزاولون لكلامهم وأدبهم وعلى ما يحسن ذلك مما وقع في كلام العرب وابتكره المولعون بلسانهم يعد بلوغاً من المتكلم إلى منتهى الإفصاح عن مراده.

([2]) مثال ذلك ما حكاه الجاحظ أنه سأل رجلاً دخيلاً في العربية عن صبي أخذته الشرطة في سرقة أتهم بها قائلاً في: أي شيء أسلموا هذا الصبي؟ فأجاب (في أصحاب سند نعال) أي في أصحاب النعال السندية، وقال مرة يشتم غلاماً للجاحظ ((الناس ويلك أنت حياء كلهم أقل)) يريد أنت أقل الناس حياء واسم هذا الدخيل نفيس بن بريهة، وكما يريد أحد أن يقول باع فرسين فيقول بيع فرس وفرس لأنه لا يعرف كيف يصوغ ماضي باع ولا يعرف صيغة المثنى ولا الإعراب.

([3]) المراد بموقع اللفظ المعنوي أن معناه الموضوع له في اللغة هو هو بحيث لا تجد له خصوصية في اختلاف معناه حتى يصير من مسائل علم المعاني بل يوجد موقع يكون فيه لوقوع ذلك اللفظ أحسن من وقوع غيره فإنه لو قال ((أما والذي أبكى وأرشد)) لكان وقوع لفظ أرشد أقل من وقوع لفظ أضحك وكذلك لفظ أبكى لو وقع مع قوله والذي أمات لم يكن له من الحسن ما كان له في موضعه الأول.


0 تعليقات:

إرسال تعليق