ما هو تعريف المغايرة في البلاغة؟.. مدح الشيء بعد ذمه أو عكسه



تعريف المغايرة:

المغايرة هي مدحُ الشيءِ بعد ذمِّهِ، أو عكسُهُ، كقول الحريري في مدحِ الدينار: «أكرم ْبهِ أصفرٌ راقتْ صفرَتُهُ»[1]. بعدَ ذمِّه ِفي قوله: «تَبًّالهُ منْ خادع ٍممارقٍ».

و كقول الشاعر[2]:
جزى اللهُ الحوادثَ منجياتٌ -- وأخزاها حوادثَ ماحقاتٌ
فإنَّ الحادثةَ قدْ ترفعُ الشخصَ وقدْ تضعُهُ

ومن هذا قولُ أبي تمامَ يغايرُ جميعَ الناس في تفضيلِ التكرُّمِ على الكرمِ، بقوله لأبي سعيدٍ الثغريِّ[3]:
قد بلونا أبا سعيدٍ حديثاً
وبَلْونا أَبَا سعيدٍ قَديما
ووَرَدْناهُ سَاحِلاً وَقَلِيباً
ورَعَيْنَاهُ بارضاً وجَميما
فَعَلِمْنا أَنْ لَيْسَ إِلاَّ بِشِق النَّـ
ـفس صار الكريمُ يدعى كريما

ثم غايرهُ المتنبِّي فقالَ على الطريقِ المألوفِ [4]:
لَوْ كَفَرَ العالَمُونَ نِعْمَتَهُ
لمَا عَدَتْ نَفْسُهُ سَجَايَاهَا
كالشَمسِ لا تَبتَغي بما صَنَعَتْ
مَعْرِفَةً عِنْدَهُمْ وَلا جَاهَا

وهذا المعنى من قول أبي تمام[5]:
لا يُتْعِبُ النّائِلُ المَبذولُ هِمّتَهُ
وَكَيفَ يُتْعِبُ عَينَ النّاظرِ النّظرُ

 ويقول بشار بن برد [6]:
يسقطُ الطَّيرُ حيثُ ينتثر الحبُّ
وتُغشى منازلُ الكرماءِ
ليس يعطيك للرِّجاءِ ولا الخو -- فِ ولَكِنْ يَلَذُّ طَعْمَ العَطَاء

هوامش:

[1]- مقامات الحريري - (ج 1 / ص 7).
[2]- علم البلاغة الشيرازي - (ج 1 / ص 6).
[3]- العمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 143) وتحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 51) والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر - (ج 1 / ص 16) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 2 / ص 309) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 13 / ص 260).

فالساحلُ والقليبُ يُستخرجُ منهما تأويلانِ مجازيانِ: أحدهُما أنه أرادَ بهِما الكثيرَ والقليلَ  بالنسبة ِإلى الساحلِ والقليبِ، والآخرُ أنه أرادَ بهما السببَ وغيرَ السببِ، فإنَّ الساحلَ لا يحتاجُ في وردهِ إلى سببٍ، والقليبُ يحتاجُ في ورده إلى سببٍ، وكلا هذينِ المعنيينِ مجازٌ، فإنَّ حقيقة َالساحلِ والقليبِ غيرُهما، والوجهُ هو الثاني، لأنه ُأدلُّ على بلاغة ِالقائلِ ومدحِ المقولِ فيه، أمَّا بلاغة ُِالقائل فالسلامة ُمن هجنةِ التكرير ِبالمخالفةِ بين صدرِ البيتِ وعجزهِ، فإنَّ عجزَه يدلُّ على القليلِ والكثيرِ، لأنَّ البارضَ هو أولُ النبتِ حين يبدو، فإذا كثُر َوتكاثفَ سميَ جميماً،فكأنه قال: أخذنا منهُ تبرعاً ومسألةً، وقليلاً وكثيراً، وأمَّا المدحُ المقولُ فيه فلتعدادِ حالاتهِ الأربعِ في تبرعه ِوسؤالهِ وإكثارهِ وإقلالهِ، وما في معاناة ِهذه الأحوال من المشاقِّ.المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر - (ج 1 / ص 17).

[4]-  العمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 143) وتحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 51) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 49 / ص 149)
[5]- العمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 143) وتحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 51) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 2 / ص 309) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 33 / ص 414)

[6]- شرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 380) والعمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 143) والحماسة البصرية - (ج 1 / ص 62) وتحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 51) وطبقات الشعراء - (ج 1 / ص 4) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 1 / ص 273) والعقد الفريد - (ج 1 / ص 64) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 92 / ص 414)
وفي تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 51):
وأبو تمامَ أخذ معناهُ الذي غاير فيه الناس من قبل إبراهيم بن سيارٍ، النظَّام، لأنه غايرَ فيه جميعَ العلماءِ في استدلالهِ على أنَّ شكرَ المنعِم لا يجبُ عقلاً ولا شرعاً، وقال في نظمِ الدليل كلاماً نقحتُه وحررتُه فقلتُ:
"المعطي لا يعدو بعطائه أحدَ أربعة أقسام حاصرة: إما للخوف، وإما للرجاء، وإما لطلب الثناء، وإما للعشق في العطاء.
فأما المعطي للخوف، فحثه على ذلك العطاء اتقاؤه ما خافه بعطائه، فلا يجب شكره.
والمعطي للرجاء إما أن يرجو المكافأة عن عطائه ممن أعطاه، أو يرجو بذلك ثواب الله، وهو في كلتا حالتيه لا يجب شكره .
 والمعطي لطلب الثناء حق عطائه أن يثنَى عليه، فإذا أثنيَ عليه، فقد سقط حقه، فلا يجب شكرُه.
 والمعطي للعشق في العطاء، مسكنٌ بعطائه غليل قلبه، ومنفس به من كربه، فلا يجب شكره"

 ووجه الرد على النظام أن يقالَ:
"المعطي لطلب الثناء، إما أن يكون عطاؤه موجباً للثناء عليه، أو لا يكون، فإن كان الأول فقد وجب شكرُ المنعم، وإن كان الثاني فقد فسدَ التقسيمُ الأول، وصار للعطاءِ قسمٌ خامسٌ لغير العلل التي علل بها، ولم تبقَ علةٌ لهذا التقسيم من العطاءِ سوى التبذيرِ والعبثِ، وهذا القسمُ مرفوضٌ لا يستحقُّ الكلامَ عليه، فإنْ قيلَ : المعطي للثناءِ قد يثنَى عليه وقد لا يثنَى، فإنْ أثنيَ عليه فقد سقطَ حقُّه، فلا يجبُ شكرُه، وإنْ لم يثنَ عليه خلا عطاؤهُ عنِ الفائدةِ."

 قلتُ: القعودُ عن أداء الواجبِ لا يسقطُ الواجبَ، فإنّ تارك الصلاة لا يسقط إخلاله بهذا الواجب وجوبها، ولا يخلو المثني على المعطي لطلب الثناء إمَّا أنْ يكون فعل واجباً، فقد وجبَ شكرُ المعطي، وإمَّا أنْ يكون ما فعله غيرُ واجبٍ فقد صار العطاء لا للثناءِ.

 ثم أقول: المعطي رغبةً في الثناءِ لا يخلو إمَّا أن يكونَ المثني فعلَ بثنائه واجباً أولاً، فإنْ كان الأولُ فقد وجبَ شكرُ المنعِم، وإنْ كان الثاني، فإمَّا أنْ يكونَ عدمُ الثناء عليه من جهةِ تقصيرِ المعطي، فقد بينا أنَّ الإخلالَ لا يسقطُ وجوب الشكرِ، فإنْ قلتَ: إنما أثنى المثني عليه تفضيلاً.
قلتُ: هذا محالٌ لأنه تقدَّم منه العطاءُ ليشتري به الثناء، فثناء المعطَى ثمنٌ لإنعامِ المعطي، فكيف يعد تفضلاً؟! فقد ثبتَ وجوبُ شكر المنعِم، وفسدَ تقسيمُ النظَّام، ثم قولُ القائل: لا يخلو المعطي للثناءِ، إمَّا أن يثنَى عليه وإما أن لا يثنَى عليه لازمٌ في جميع الأقسام، فإنَّ المعطي لطلب المكافأةِ. إمَّا أنْ يكافأَ، وإمَّا أن لا يكافأ، وكذلك المعطي للخوفِ، ولم يبق قسمٌ لا يدخلهُ هذا الاحتمالُ، سوى المعطي للعشق في العطاءِ، فإنه وإنْ لم يجبْ شكرهُ على نفسِ العطاء لكونه مسكِّناً به غليلَ قلبهِ، ومشبِعاً غرضَ نفسِه، فهو مشكورٌ على عشقِ أحسنِ الخلال، وأكرمِ الفعال، وكيفَ لا يستحقُّ المنعمُ الشكرَ، والمنعمُ على كل تقديرٍ أحدُ رجلينِ: رجلٌ مطبوعٌ على العطاءِ مجبولٌ عليه، فهو مشكورٌ على كرمِ طبعٍ، وسماحةِ جبلَّتهِ، ورجلٌ غيرُ مطبوعِ على ذلك، فهو يجاهدُ نفسَه، ويغلبُ طبعَه على التكرمِ حتى يتعمدَ العطاءَ ويتكلفَ الحباءَ، فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» أخرجه البخاري برقم( 1419) ومسلم برقم (2429).