أغراض القصيدة الجاهلية.. التغيير من خلال الموازنة الواعية بين صدى الواقع المفروض وبين الصورة المثلى لآفاق المستقبل الذي يحدده التأمل والاستشراف الذاتي

أغراض القصيدة الجاهلية:

يبدو أن طبيعة النظام الجاهلي الذي تحكّم في إذابة الشخصية الفردية في كيان القبيلة الاجتماعي أدى إلى أن تصبح التجربة القبلية مدار أغراض الشعر وفنونه بوجه عام، ومن هنا صحّ أن يقال: إن الشعر كان سجل الحياة الاجتماعية وتأريخها الإنساني، على أن ذلك كلّه لا ينبغي أن يؤدي إلى الأخذ بالنصوص الشعرية على أنها مسلّمات تاريخية خالصة، ذلك أن مهمة الشاعر تظل مختلفة عن مهمة المؤرخ من حيث الأساس.

سيادة القوانين والمعايير الاجتماعية:

ونحن لا ننكر أنّ ثمة قوانين ومعايير اجتماعية ظلت تتحكم في حياة المجتمع الجاهلي، وتحدد تقاليده ومثله العليا، وأن الشعر ظل مقيداً بتلك القوانين والمعايير، في شتى وجوه القول، ولكننا نزعم أن الشاعر رغم قيوده الاجتماعية الصارمة ظل يمثل طموح العبقرية إلى التغيير من خلال الموازنة الواعية بين صدى الواقع المفروض وبين الصورة المثلى لآفاق المستقبل الذي يحدده التأمل والاستشراف الذاتي.

من هذا المنطلق ينبغي أن نمضي في دراستنا لأغراض القصيدة الجاهلية التي ظلّت مسخرة للتعبير عن آثار هذه التجارب المقيدة بطبيعة الالتزام القبلي، والمهيأة لقبول صور استشراف الشاعر الذاتي من جهة أخرى.
على أن ذلك كله ينبغي الاّ يقودنا إلى الغضّ من قيمة التجارب الفردية التي ظلت تجد طريقها إلى عدد لا يستهان به من النماذج الجاهلية الموروثة.

نماذج فنية:

لقد تحددت أغراض القصيدة الجاهلية منذ بداية العصر، واستقرت على نمط ظل يتحكم في النماذج الفنية، فكان المديح والرّثاء والهجاء والفخر والتهديد وما إلى ذلك من أغراض، ميادين تعبير عن آثار هذه الحياة القاسية المضطربة بمثلها العليا، وقوانينها الاجتماعية الصارمة من جهة وعن طبيعة حياة الشاعر ونمط تجاربه الاجتماعية والذاتية من جهة أخرى.

قصيدة المديح:

لقد تحكم العرف في طبيعة معالجة كل غرض من أغراض النموذج الجاهلي، وفي توجيه تفاصيله أحياناً، فكانت قصيدة المديح ميدان التعبير عن الإعجاب الاجتماعي بصور الفضائل التي تبهر النفس، وتدفعها إلى تخليد المآثر المقيدة بالمثل العليا القائمة على تقديس سمات القوّة والكرم والشجاعة، وحفظ العهد، وحماية الجار، ورعاية الضعيف... ومن هنا تشابهت مجاري نماذج المديح.
ويبدو أن الدافع القبلي ظلّ مداراً أصيلاً لنماذج المديح خلال العصر كلّه. على أن بروز المنفعة الذاتية في بعض النماذج ينبغي ألاّ يغرينا بتفسير جديد.

قصيدة الرثاء:

أما قصيدة الرثاء الجاهلية فقد ظلت موزعة بين اتجاهين يبدو أحدهماً امتداداً لقصيدة المديح. وأما الآخر فقد تمثل في ضرب من النواح. على أن الاتجاهين قد يمتزجان في النموذج الواحد، لا سيما إذا ربطت الشاعر بالمرثي صلة اجتماعية قريبة.
أما النماذج التي رثى الشعراء بها أنفسهم فقد بدت في أكثر الأحيان موزعة بين اتجاه النواح وبين مجرى الفروسية القائم على إبراز المزايا الذاتية.

قصيدة الهجاء:

أما نموذج الهجاء فقد أشار إلى عمق استخدام الصورة الهجائية في الأمور القبلية والاجتماعية، حتى بدا أن بواعثها لا تختلف كثيراً عن بواعث قصيدة المديح من حيث الأساس، وأن ناقضتها في اتجاهها إلى تجريد الخصم من الحد الأدنى للمثل العليا والقيم الاجتماعية والإنسانية.

وقد يشير استقراء الدواوين الجاهلية إلى أن الاختصار والتخلي عن التمهيد الفني هو الطابع الغالب على قصائد الهجاء، وتلك ظاهرة ينبغي أن نتلمس بواعثها في طبيعة الدوافع النفسية التي تتمثل عادة في فورة غضب سريعة الانقضاء لا تستدعي تأملاً ذاتياً الاّ في حالات نادرة، قد تبدو واضحة في بعض النقائض التي تبادلها بعض الشعراء في مرحلة متأخرة من العصر الجاهلي.

قصيدة الفخر:

وينطلق نموذج الفخر من القيم والمعايير التي تنطلق منها نماذج المديح عادة، الاّ أن الاتجاه الفني في نموذج الفخر يبقى متميزاً بإخضاع تفاصيله لاستشراف المثُل العليا في ذات الشاعر الفردية أو القبلية.