الحكمة في الشعر الجاهلي.. درجة من الوعي الفكري يجمع معاني عامة، تأتي دائما عن طريق تجربة أو نظرة في الحياة، فيها عظة الماضي، وتجربة الحاضر، وحذر المستقبل



الحكمة في الشعر الجاهلي:

تكاد معجمات اللغة تجمع على أن لفظة الحكمة ترجع إلى العدل، والحلم، والعلم. وحدودها في ضوء ما أوردته المعجمات ترتبط بثلاثة أبعاد معنوية، هي: العدل بمعناه الاجتماعي، والعلم بمعنى المعرفة، والحلم بمعنى الالتزام بقيم أخلاقية معينة.

غرض ثانوي:

إن أغلب الشعر الحكمي لا يكاد يقع غرضا رئيسا يقصده الشاعر قصدا، وإنما يأتي في تضاعيف شعره أبياتا معدودة، أو مفردة هي صوغ لتجربة الشاعر من خلال مجتمعه، وهي - فيما أرى - تجارب سطحية أخذت من خلال تقلب الناس في معترك الحياة، وما استفادوه من خبرات السابقين، وما حصلوه من هوامش ثقافية دينية وتاريخية.

تجارب الحياة:

وترتبط الحكمة ارتباطا وثيقا بمجموعة التجارب العامة والخاصة في عصر معين، وهي  ليست "أنواعا من الفلسفة التي تبحث في حقائق  الأشياء، وتنظر فيما وراء الطبيعة... إنما هي درجة من الوعي الفكري يجمع معاني عامة، تأتي دائما عن طريق تجربة أو نظرة في الحياة، فيها عظة الماضي، وتجربة الحاضر، وحذر المستقبل.

الحكم الصائبة:

إن هذه التجارب السطحية لم يعمقها فكر تأملي يسأل، ويبحث ويتدبر، ويحاول الوصول إلى إجابة، لذا فإن معظم الحكم الصائبة في الشعر الجاهلي إنما هي تلك التي تعرض لمعاملات الناس بعضهم ببعض، أما تلك التي تمس قضية تحتاج إلى تعمق في النظر، كقضية الموت والفناء مثلا، فإنها قد تخطئ وتصيب، فهذا زهير بن أبي سلمى المعدود من المكثرين والمجيدين والمشهورين في هذا الغرض، ونظراته في هذا المجال، كما يقول يحيى الجيوري:
"كانت تقرب من المعاني الإسلامية، وذلك أن الفترة التي سبقت عهد الرسالة المحمدية كانت فترة إرهاص وتهيؤ"، ماذا تراه يقول عن الموت:
رأيت المنايا خبط عشواء مَنْ تُصبْ
تُمتْهُ ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن  هاب  أسباب  المنايـا  ينلنـه
وإن  يرق أسباب السماء بسلم

الموت أعمى:

فالموت في نظر زهير أعمى يضرب ذات اليمين وذات الشمال. وهو عند طرفة  يتخيّر وينتقي. فيأخذ الأعزة الكرام ويترك من دون ذلك، فقال:
كريم يروّي نفسه في حياتــه
ستعلم إنْ متنا غدا أينا الصدي
أرى قبر نحـام بخيـل بمالـه
كقبر غوي في البطالة مفسـد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحـش المتشـدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفـد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخي وثناياه في اليد

حتمية الموت:

فعندما أحس طرفة بحتمية الموت، وبطلان الحياة اندفع بكل قواه إلى معانقة اللذة بكل أشكالها، انتقاما من الحياة، وثورة عليها، محاولا قطف كل ثمارها، بكل الوسائل والطرق... وقد صور هذا بقوله:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
فإن كنت لا تسـطيع دفع  منيتـي
فدعني  أبادرها  بما  ملكت يـدي

فلسفة دنيوية خالية من اليقين الديني:

والشعر الجاهلي -إلا أقله- لا يصورإلا فلسفة دنيوية خالية من اليقين الديني الذي يفعل فعله في مداواة جروح الإنسان، وشقاء نفسه، وتصبيره على كسب الحياة. ومع إيمانهم بحتمية الموت إلا أنهم لم يتساءلوا أين سيذهبون؟ وماذا سيكون مصيرهم بعد أن تعلو قبورهم أكوام من التراب؟

الأفكار السوداوية:

استمع إلى ما قاله الأسود بن يعفر في داليته، بعد أن تحدث عن حتمية الموت، الذي ألم بمن سبقوه من العظام، وتأمل كيف استولت هذه الأفكار السوداوية على الشاعر حين بدأ بها قصيدته على خلاف عادتهم، فإذا كان هذا مصير أولئك الملوك العظام، فماذا يأمل البدوي التعيس في صحرائه المجدبة؟
عد إلى القصيدة، وانظر كيف ينتزع الشاعر نفسه انتزاعا عنيفا من أفكاره السوداء، ليقبل إقبالا عنيفا على ملذات الحياة العاجلة من خمرة خالصة، ونساء بيض، وركوب على جواد سريع، يسرع به إلى الأودية، ليصيد الحيوان، لكي يعود في نهاية القصيدة، فيختمها بقوله:
فإذا وذاك ولامهاه لذكره
والدهر يعقب صالحا بفساد

الروح الحزينة المتشائمة:

وانظر كيف شاعت هذه الروح الحزينة المتشائمة في حكم علقمة، وكيف حملته في أحلك ساعات تفكيره الأسود على اليأس والسلبية، أيضا، فكل قوم مهما تبلغ عزتهم وكثرتهم معرضون لدواهي الدهر، والناس يزيدون من شر الدهر بعدم تعاونهم على نوائبه، والقدر الأعمى يسيطر على المصائر، فبعض الناس ينال حظا سعيدا أنى توجه، وبعضهم كتب عليه الحرمان، والناس عامة يغلبهم الجهل، ويندر بينهم الحلم، وكل حصن لا بد مهدوم، وقد احتفظت بألفاظه لأنني لم أجد أوجز منها في أداء فكرتها، فقال:
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
والحمد لا يشترى إلا له ثمن 
مما يضنّ به الأقوام معلوم
والجود نافية للمال مهلكة
والبخل باق لأهليه ومذموم
والمال صوف قرار يلعبون به
على نقادته واف ومجلوم
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه
أنى توجه والمحروم محروم
والجهل ذو عرض لا يستراد له
والحلم آونة في الناس معدوم
ومن تعرض للغربان يزجرها
على سلامته لا بد مشؤوم
وكل حصن وإن طالت سلامته
على دعائمه لا بد مهدوم

وصف مجالس الخمر:

انظر كيف انتزع علقمة نفسه من تلك الأفكار السوداوية التي سيطرت على تفكيره، وهرب من بؤس ذلك الواقع الذي صوره ليتحدث عن مجالس الخمر التي كان يؤمها، وليسهب في وصفها، فقال:
قد أشهد الشّرب فيهم مزهر رنم
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
كأس عزيز من الأعناب عتقهـا
لبعض أحيانها حانيـة حــوم
تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم

الحث على فعل الخير والأمانة والقناعة والعدل والتفاؤل:

واتجهت الحكمة الجاهلية في كثير من مضامينها اتجاها أخلاقيا، غايته النصح والإرشاد

فعل الخير:

فهذا عبيد بن الأبرص يحث على فعل الخير، لأنه سيخلد في الناس. لذا نراه يخاطب حجرا بقوله:
الخير يبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد

الأمانة:

ويحث على الأمانة، فيقول:
وجدتُ خؤون القوم كالعرّ يتقى
وما خلت غَمّ الجار إلا بمعهدي

القناعة:

وحث بشر بن أبي خازم على القناعة، فقال:
أليس طلاب ما قد فات جهلا
وذكر المرء ما لا يستطيع

العدل:

وحثّ ضرار بن الأزور على العدل، حين ذم الظلم وبين عاقبته الوخيمة:
تفكروا هل بغى ممن مضى أحد
إلا أحاط به من بغيه الطير

التفاؤل:

ودعوا إلى التفاؤل، لما له من أثر في إشاعة روح التسامح والعدالة بين الناس، فقال مغلس بن لقيط:
ولا تهلكن النفس كربا وحسرة
على الشيء سداه لغيرك فاطـره
فإنك لا تعطي امرأ حظ غيره
ولا تمنع الشق الذي الغيث ماطره

التنديد بفساد العلاقات الإنسانية:

ومن شعراء الحكمة من اتجه إلى التنديد بفساد العلاقات الإنسانية، فهذا أوس بن حجر يعلو صوته محذرا المجتمع مما شاع فيه من آفات اجتماعية، ومفتحا أعين الناس لإدراك ما حولهم من شؤون الحياة ونقدها، فقال:
فإني رأيت الناس إلا أقلهـم -- خفاف العهود، يكثرون التنقـلا
بني أم ذي المال الكثير يرونـه
وإن كان عبدا سيد الأمر جحفــلا
وهم لمقل المال أولاد عَلّـة
وإن كان محضا في العمومة مخولا
وليس أخوك الدائم العهد بالذي
يذمك إن ولىّ ويرضيك مقبـلا
ولكن أخوك النائي ما دمت آمنا
وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

النظرة إلى المرأة:

ومنهم من خص المرأة بالحديث، وسجل رؤيته الخاصة لطبيعتها، ومسلكها الاجتماعي، فهذا علقمة الفحل، يقول:
فإن  تسألوني بالنساء فإننـي
بصير بأدواء النساء طبيـب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له من ودهن  نصيـب
يردن ثراء المال حيث علمنـه
وشرخ الشباب عندهن عجيب

الموقف من المرأة:

ويضم الطفيل الغنوي صوته إلى صوت علقمة، ويسجل في شعره موقفا من المرأة، بدا مقتنعا به، بعد أن خبر أمرها، فقال:
إن النساء كأشجار نبتن معا
منها المرار وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق
فإنه واجب لابد مفعول
لا ينثنين لرشد إن دعيـن له
وهن بعد ملومات مخاذيل
فما وعدنك من شرّ وفين به
وما وعدْنَ من الخيرات تضليل