الجالية اللبنانية في أستراليا: مسيرة مهنية مميزة وتحديات مجتمعية
لطالما كانت الجالية اللبنانية في أستراليا، وتحديدًا في مدن مثل سيدني وملبورن، جزءًا حيويًا من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. تميزت هذه الجالية بنمط مهني فريد يغلب عليه العمل الحر وريادة الأعمال الصغيرة، وهو ما يعكس روح المثابرة والاعتماد على الذات التي جلبها المهاجرون معهم. ومع ذلك، لم تخلُ مسيرتهم من تحديات مجتمعية وإعلامية، خصوصًا في أعقاب أحداث معينة أدت إلى تدقيق مكثف وردود فعل سلبية.
مسار مهني متميز: من العمل الحر إلى ريادة الأعمال
منذ بدايات هجرتهم إلى أستراليا، أظهر اللبنانيون ميلًا قويًا نحو العمل الحر والاستقلال المهني. هذا النمط لم يكن مجرد خيار، بل أصبح سمة مميزة لهويتهم الاقتصادية. ففي عام 1901، كان حوالي 80% من اللبنانيين في ولاية نيو ساوث ويلز يتركزون في مهن تجارية. هذا التركيز كان لافتًا للنظر ويشير إلى قدرتهم على تأسيس أعمالهم الخاصة في بيئة جديدة.
هذا التوجه لم يتغير كثيرًا بمرور الوقت، ففي عام 1947، ظلت النسبة مرتفعة حيث كان 60% من اللبنانيين "إما أصحاب عمل أو يعملون لحسابهم الخاص". هذه الأرقام تؤكد على استمرارية الاعتماد على الذات وروح المبادرة التجارية داخل الجالية. وحتى في تعداد عام 1991، لوحظ أن الرجال والنساء اللبنانيين كانوا "ممثَّلين بشكل ملحوظ على نحو ملحوظ كمستخدمين لحسابهم الخاص". هذا الثبات على مدى عقود يبرهن على أن العمل الحر لم يكن مجرد استراتيجية أولية للهجرة، بل أصبح جزءًا أصيلًا من هويتهم المهنية.
تجسد هذا النمط المهني بشكل خاص في أنشطة تجارية صغيرة متنوعة. على سبيل المثال، اشتهر اللبنانيون في سيدني بالعمل في مجالات مثل التجديف (hawking)، أي البيع المتجول، والتخزين (storage)، مما يشير إلى مرونتهم وقدرتهم على التكيف مع احتياجات السوق.
في ملبورن، اتخذ هذا التوجه شكلاً آخر من خلال تأسيس مشاريع تجارية تتناسب مع النسيج الثقافي للمدينة. افتتح اللبنانيون هناك المطاعم التي تقدم المأكولات الشرق أوسطية الأصيلة، ومحلات البقالة التي تلبي احتياجات الجالية، والمتاجر العامة. كما برزت ظاهرة البارات اللبنانية على طريق سيدني، والتي أطلق عليها أحيانًا اسم "لبنان الصغير"، في إشارة إلى تركيز الأعمال التجارية والثقافة اللبنانية في تلك المنطقة، مما خلق جيوبًا ثقافية نابضة بالحياة.
تحديات مجتمعية وتدقيق إعلامي:
لم تكن مسيرة الجالية اللبنانية في أستراليا خالية من التحديات، ففي بعض الفترات واجهت الجالية تدقيقًا إعلاميًا ومجتمعيًا كبيرًا، خاصة في أعقاب أحداث معينة:
في عام 2000، جرت محاكمات لسلسلة من الاعتداءات على الاغتصاب الجماعي في سيدني، والتي ارتكبتها مجموعة من الشباب المسلمين اللبنانيين. أدت هذه الأحداث المروعة إلى تدقيق مكثف على المجتمع الأسترالي المسلم اللبناني من قبل وسائل الإعلام. أثارت القضية ردود فعل قوية، ووضعت الجالية تحت المجهر، مما خلق توترًا وشعورًا بالوصم.
تفاقم هذا القلق المجتمعي والانقسام في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، والتي أدت إلى رد فعل أعمق مناهض للمسلمين على مستوى العالم، وشمل ذلك أستراليا. هذا السياق العالمي أثر سلبًا على perception (تصور) المجتمع المسلم ككل، بما في ذلك اللبنانيين.
وفي عام 2005، استمر هذا القلق المجتمعي والانقسام في أعقاب أعمال شغب كرونولا في سيدني. هذه الأحداث، التي شهدت مواجهات عنيفة، زادت من التوترات بين بعض شرائح المجتمع الأسترالي والجالية اللبنانية، مما أبرز الحاجة إلى جهود أكبر لتعزيز التفاهم والاندماج.
تمثيل إعلامي وسياسي: محاولات للفهم والتصحيح
في ظل هذه التحديات، كانت هناك أيضًا محاولات لتقديم صور أكثر توازنًا عن الجالية اللبنانية والمساهمة في النقاش العام:
في عام 2014، قدمت هيئة الإذاعة الأسترالية SBS سلسلة من الأفلام الوثائقية عن الأستراليين اللبنانيين تحت عنوان "ذات مرة في بانشبول" (Once Upon a Time in Punchbowl). هذه السلسلة سعت لاستكشاف حياة الجالية وتحدياتها وإنجازاتها من منظور أكثر عمقًا، مما ساهم في تقديم رؤية متعددة الأبعاد عن هذه الشريحة من المجتمع.
على الصعيد السياسي، أثار النقاش حول الهجرة والجاليات بعض التصريحات التي لقيت ردود فعل متباينة. ففي نوفمبر 2016، صرح وزير الهجرة آنذاك، بيتر دوتون، بأنه "من الخطأ من إدارة ليبرالية سابقة أن تبرز المهاجرين اللبنانيين المسلمين". هذه التصريحات أثارت جدلاً واسعًا، واعتبرها البعض مثيرة للانقسام وتنميطًا لمجموعة عرقية دينية معينة.
ومع ذلك، سارعت وزيرة الخارجية، جولي بيشوب، لتوضيح موقف الحكومة. فقد أكدت أن السيد دوتون كان "يضع نقطة محددة حول المتهمين بجرائم الإرهاب"، وأنه "أوضح تماما أنه يحترم ويقدر المساهمة التي يقدمها المجتمع اللبناني في أستراليا". هذا التوضيح سعى إلى التخفيف من حدة الجدل وإعادة التأكيد على تقدير الدولة لمساهمات الجالية اللبنانية الإيجابية في المجتمع الأسترالي بشكل عام.
على الرغم من التحديات والتدقيق الذي واجهته الجالية اللبنانية في أستراليا، إلا أنها استمرت في المساهمة بفعالية في التنمية الاقتصادية والثقافية للبلاد، محافظة على هويتها الفريدة وروح المبادرة التي ميزتها منذ الأيام الأولى لهجرتها.