مشروعية توثيق العقود بالكتابة.. ياأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه

لقد اعتني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم والقراءة والكتابة، واتخذ كتابا يكتبون له في مختلف المجالات( الوحي – المعاهدات –العقود –والمراسلات) وأطلق عليهم كتاب النبي واختص كل واحد منهم بمجال([1]).

وكان له خاتم يختم به رسائله دليل على رسمية الوثيقة.
واتخذ الخلفاء من بعده كتابا يكتبون لهم ويوثقون أمور الدولة، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يوثق الأمور الخطيرة، كتوثيق القرآن الكريم بالكتابة، فلم يمت إلا وهو مكتوب في الصحف وموثق في الصدور، ووثق دستور المدينة وصلح الحديبية، ووثق الصحابة السنة النبوية الشريفة([2]).

وقد ثبت مشروعية التوثيق بالقرآن والسنة وعمل الصحابة والمسلمين من بعدهم.  قال الله تعالى: (ياأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه...)([3]).

وقد جاء في السنة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال.  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماحق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"([4]).

فالأمر بكتابة الدين ثم الإرشاد إلى كتابة الوصية  دليلا على مشروعية التوثيق.
وعن ابن عباس أنه قال لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من جحد آدم عليه السلام أن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأحرج منه ما هو دار إلى يوم القيامة، يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا- يزهو فقال من هذا يا رب؟ قال هو ابنك  داود قال أي رب كم عمره؟ قال ستون عاما. قال رب زده في عمره قال لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف سنة فزاده أربعين عاما، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر وأتته الملائكة قال أنه قد بقى من عمري أربعون عاما  فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة فقيل له أنك قد وهبتها لابنك داود قال ما فعلت فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة" /([5]).

 لقد اختلف العلماء في الأمر الوارد بكتابة الدين والإشهاد في قوله تعالى "فاكتبوه" وقوله "وأشهدوا"، فمنهم من قال أن الأمر للندب والإرشاد، ومنهم من قال أن الأمر للوجوب، ومنهم من قال بالوجوب لكنه خفف، ومنهم من قال بالنسخ بقوله تعالى "فإن أمن بعضكم بعضا" ([6]).

1) الجمهور: أن الأمر به أمر ندب وإرشاد إلى حفظ الأموال وإزالة الريب ([7]).

2) الوجوب: ذهب إلى ذلك محمد ابن جرير الطبري جاء في أحكام القرآن للقرطبي"ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها بيعا كان أو قرضا لئلا يقع فيه نسيان أو جحود فرض بهذه الآية"([8] ) وذهب ابن عمر وأبو موسى إلى أن الكتب واجب إذا باع بدين، وذهب الربيع إلى أن كتب الديون واجب ثم خففه الله تعالى بقوله "فإن أمن بعضكم بعضا "([9]).

3) القول بالنسخ: قال الشعبي كانوا يرون أن قوله تعالى "فإن أمن " ناسخ لأمر بالكتب".
وقد ذهب إلى القول بالوجوب كذلك الضحاك وبن جريج والربيع وابن عمر وأبو موسى وابن جرير الطبري وابن حزم ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد الطاهر ابن عاشور.  

وذهب إلى القول بأن الأمر للوجوب لكنه نسخ بقوله "فإن أمن بعضكم بعضا" أبو سعيد الخضري وابن زيد والشعبي. وذهب إلى القول بالوجوب لكنه خفف بقوله "فإن أمن بعضكم بعضا" الربيع([10]). وقال بأن الأمر للندب والإرشاد القاضي أبو محمد بن عطية وغيره قال وهو الصحيح ([11]).

جاء في التحرير والتنوير: "والأرجح أن الأمر للوجوب فإنه الأصل في الأمر وقد تأكد بهذه المؤكدات، وإن قوله "فإن أمن بعضكم بعضا" رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة، ويظهر أن في الوجوب نفى للحرج عن الدائن إذا طلب من دائنه الكتب" وقال كلام كثيرا في تأكيده على أن الأمر للوجوب فراجعه([12]).

وجاء في تفسير القرآن الحكيم المعروف بالمنار: "ويتحتم ذلك على القول بأن الكتابة واجبة... وفى قوله"ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله" وهو دليل أيضا على أن الكتابة واجبة في القليل والكثير... إلى أن يقول وفى نفى الحرج إشارة إلى أن كتابة ذلك أولى، ثم إن وراء هذه المصلحة الخاصة في كتابة الدين مصلحة عامة هي جعل المسلمين أمة كتابة... إلى أن يقول ففرض كتابة الدين عليهم وهو من وسائل إخراجهم من الأمية، والحق الذي لا مراء فيه أنه لا شيء من الحرج في الكتابة، والحاصل أن ظاهر الآية وأسلوبها وطريقة تأديتها تدل على أن الأمر فيها للوجوب وإن كان الجمهور على خلافه"([13]).

جاء في المحلى لابن حزم (إن الأوامر جاءت مغلظة مؤكدة لا تحتمل تأويلا وإن قوله تعالى"فإن أمن بعضكم بعضا"([14]) راجع إلى الرهن لا إلى الأمر بالكتابة  والإشهاد واحتج بحديث أبى موسى الأشعري([15]) "ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجاب لهم وذكر فيهم أو رجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه)([16]).

 وقال الجمهور:
1)- أن قوله تعالى "فإن أمن بعضكم بعضا "([17] )مرتبط بقوله: "فاكتبوه" وبقوله: "وأشهدوا" وبقوله: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة"([18]).  فالربط بين الأمر بالكتابة وبين الائتمان يدل على الندب.

2)- أن الرهن بدل عن الكتابة والرهن يجوز ترك كتابته بالائتمان بنص الآية، فإن كان الرهن جائزا ترك كتابته وهو بدل الكتابة، فترك الكتابة جائز أيضا-

3)- لو كانت الكتابة واجبة لنقل التوثيق بها عن النبي وعن السلف الصالح في مداينتهم وبيوعهم ولم ينقل عنهم ذلك

4)- إن في إيجاب الكتابة والإشهاد مشقة على الناس وحرج(([19]).
أما القائلون بالنسخ فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه عدم النسخ قال "لا والله إن آية الدين محكمة وما فيها نسخ"([20]).  

[1] ص49 - التوثيق والإثبات بالكتابة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي الدكتور محمد جميل بن مبارك
[2] المرجع السابق ص55وما بعدها
[3] سورة البقرة الآية رقم282

[4] متفق عليه واللفظ للبخاري رقم  2738/ص676- ومسلم  كتاب الوصية رقم1627/ص1249-وأخرجه أبو داود رقم 2862 الجزء3/ص111
[5] ورواه احمد في مسنده رقم  2270/1/252-2713/1/299-3519/1/372 وقال شعيب الارناؤوط صحيح لغيره

[6] التوثيق والإثبات بالكتابة في الفقه الإسلام والقانون الوضعي الدكتور محمد جميل بن مبارك  ص81
[7] المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق- أبى العباس احمد بن يحيى الونشريسى الجزء الاول-القسم2 ص9

[8] تفسير القرطبى الجامع لأحكام القرآن أبو عبد الله القرطبي الجزء4/ص/431
[9] التوثيق والإثبات بالكتابة ص81 وما بعدها
[10] المرجع السابق انظر الصفحة 82

[11] المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق للونشريسى الجزء الأول القسم الثاني تحقيق الكتاب ص9 وما بعدها
[12] تفسير التحرير والتنوير الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله ج3/ص102 وما بعدها

[13]  تفسير القرآن الحكيم – المشهور بتفسير المنار- الشيخ محمد عبده –تأليف الشيخ رشيد رضا ج3/ص121/135
[14] انظرا لمحلى بالآثار لابن حزم ج9/ص284 –سورة البقرة الآية رقم 283

[15] التوثيق والإثبات بالكتابة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي لابن مبارك ص81
[16] المستدرك على الصحيحين للحاكم رقم3181ج3/ص24تفسير سورة النساء وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه- ووافقه الذهبي وصححه الالبانى في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم1947/ص352

[17] سورة البقرة الآية283
[18] سورة البقرة الآية 283
[19] التوثيق والإثبات بالكتابة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي –الدكتور محمد جميل بن مبارك ص82/85
[20]  تفسير القرطبى الجامع لأحكام القرآن أبو عبد الله القرطبي ج4/461
أحدث أقدم

نموذج الاتصال