اشتراط الشهادة في الزواج.. ليست شرطا لصحة عقد الزواج، بل هي شرط لدوامه وترتيب آثاره، وهي مستحبة عند العقد، واجبة عند الدخول ويكفي الإعلان عند العقد

اختلف العلماء في اشتراط الشهادة في الزواج إلى ثلاثة أراء:

1- رأي الجمهور: أن الشهادة شرط لصحة عقد الزواج.

2- ويرى المالكية أن الشهادة ليست شرطا لصحة عقد الزواج، بل هي شرط لدوامه وترتيب آثاره، وهي مستحبة عند العقد، واجبة عند الدخول ويكفي الإعلان عند العقد.

3) ويرى فريق أخر من العلماء أن الشهادة ليست شرطا أصلا، لا عند العقد ولا في ترتيب آثاره عليه، بل الواجب هو الإعلان.

ذهب إلى ذلك ابن أبي ليلى وأبو ثور وأبي بكر الأصم والظاهرية والحسن بن علي.
ووجه الاختلاف هل هي مقارنة للعقد؟
أم هي شرط لدوامه صحيحا؟
أم أنها ليست شرطا أصلا؟
وهل هي حكم شرعي، أم للتوثق والإعلان؟( [1]).

ووجه استدلال المالكية:  ما ورد من الأحاديث التي تأمر بالإعلان.  عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى وسلم قال: (أعلنوا النكاح) رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي([2]) وأخرج الترمذي أيضا من حديث عائشة وقال حديث حسن غريب في هذا الباب: (أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف وليولم أحدكم ولو بشاة...)([3]).

 جاء في سبل السلام "دلت الأحاديث على الأمر بإعلان النكاح، والإعلان خلاف الإسرار، وعلى الأمر بضرب الدف وكل الأحاديث فيها مقال، إلا أنها تعضد بعضها بعضا. ويدل على مشروعية ضرب الدف، لأنه أبلغ في الإعلان من عدمه وظاهر الأمر الوجوب، ولعله لا قائل به فيكون مسنونا، ولكن بشرط ألا يصحبه محرم من الغنى بصوت رخيم من امرأة أجنبية.."([4]).

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله  وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مر هو وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء ولعبا فقال: ما هذا؟ قالوا:  نكاح فلان يا رسول الله قال: هذا النكاح لا السفاح، ولا نكاح في السر حتى يسمع دف أو يرى دخان)([5]).

ووجه استدلال الجمهور: ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة "([6]).
ووجه الاستدلال:  أنه جعل البغايا محصورات في اللائي يزوجن أنفسهن بغير شهود، وفيه دليل على تقبيح هذا الفعل "([7]).
واستدلوا أيضا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي ولا نكاح إلا بشهود)([8]).

واستدلوا كذلك بما رواه البيهقى والدا رقطني والطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي  وشاهدي عدل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)([9]).

وقد حكى ذلك في البحر عن علي وعمر وابن عباس والعترة والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم "([10]).

أما القائلون بعدم اشتراط الشهادة أصلا لصحة الزواج دليلهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم: حين تزوج صفية والجارية بغير شهود، وقالوا: أن الأحاديث كلها ضعيفة، ولم يسلم واحد منها من مقال، لذلك قال ابن المنذر لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر، وإن كان حديث ابن عباس صحيحا، فالمراد منه من البينة فيه ما يظهر النكاح لا خصوص الشهادة. ([11]).

فمن قال أن الشهادة حكم شرعي قال أنها شرط لصحة العقد. ومن قال: أنها للتوثق قال يكفي الإعلان وهي مستحبة عند العقد وواجبة لدوام العقد صحيحا وترتب آثاره عليه.  ومن قال:  بصحة الأحاديث قال باشتراطها، ومن رأى عدم صحتها قال بخلاف ذلك.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد ([12]).

وقد احتج مالك بوجوب الإعلان بما روي في الآثار، وأن الكتاب لم يشترط الشهادة، ونصوص السنة ليست صريحة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل مناط الصحة الإعلان في قوله: (أعلنوا النكاح)([13]).

قال الشيخ ابن تيمية: "والذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح وإن لم يشهد شاهدان...  ثم قال فمن قال أن النكاح يصح مع نفي المهر، ولا يصح إلا مع الإشهاد، فقد أسقط ما أو جبه الله، وأوجب ما لم يوجبه الله" "فكان قول أهل الحديث، وأهل المدينة، الذين لم يشترطوا لفظا معينا في النكاح، ولا إشهاد شاهدين مع إعلانه وإظهاره، وأبطلوا نكاح الشغار، وكل نكاح نفي فيه المهر، وأبطلوا نكاح المحلل... أشبه بالكتاب والسنة وآثار الصحابة "([14]).

والظاهر أن ابن تيمية يميل إلى القول بصحة الزواج بالإعلان مع الإظهار وإن لم يشهد شاهدان.
وهذا الذي أميل إليه بالنسبة للأقليات المسلمة في الغرب، فإن تحقق الإشهاد والإعلان وأمكن الجمع بينهما فهو القوى الراجح.

والجمهور الذين يقولون بوجوب الإشهاد، ويعتبرون الشهود بينة، لإثبات الزواج، وذلك في زمن كانت الشهادة لها قيمتها، وهي الوسيلة الناجعة  للإثبات، وكان الناس أهل دين وخلق، وأمانة وقليل الكذب والخيانة، لكن تغيرت الأمور وقل التدين، وضعف الإيمان، وفسدت الأخلاق والذمم، وكثرت الخيانة وشهادة الزور، وأصبحت  الشهادة وسيلة غير مأمونة، يمكن تزويرها والتشكيك فيها.

والشهود قد ينسون أو يموتون، وقد يغيب أحدهم غيبة لا يمكن معرفة مكانه وحياته من موته، عند طلبه للشهادة وقد قال بعض الفقهاء: أن الأصل "الشهادة" أصبح مصدر لا يعتد به فينتقل من الأصل إلى البدل (التوثيق) للقاعدة المشهورة (إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل)([15]).

وقد رتب صلى الله عليه وسلم مناط الصحة لعقد الزواج الإعلان والإشهار، فهل يمكن أن نعتبر الإعلان مع الإشهار توثيقا اجتماعيا؟
وهل القوانين تعترف بشهادة الشهود، في زواج لم يسجل رسميا في المحاكم الشرعية، أو لدى السلطات المختصة للدولة؟

يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور- رحمه الله تعالى- ويجب النظر في أن التوثيق بتسجيل الإشهاد لعقد النكاح تسجيلا يقطع تأتي إنكاره، أو الشك فيه، يقوم مقام الشهرة في معظم حكمتها، فذلك مجال للاجتهاد "([16]).

ويقول كذلك "ولذلك يجب على ولاة الأمور حراسة الوازع الديني من الإهمال فإن خيف إهماله أو سوء استعماله وجب عليهم تنفيذه بالوازع السلطاني"([17]). ونستنتج مما تقدم في الشهادة والإعلان في عقد الزواج أحكام أهمها.
 
للزواج من جهة إعلانه والإشهاد عليه حالات هي:                     
1- أن يكون إشهاد وإعلان وهذا متفق علي صحته بين جميع الفقهاء.  
2- أن يكون إشهاد بلا إعلان فهو صحيح عند الجمهور خلافا للمالكية ومخالف لأمر أعلنوا النكاح. لأن المالكية يقولون الشهادة مستحبة عند العقد ويكفى الإعلان واجبة عند الدخول.
3- أن يكون إعلان بلا  إشهاد وهذا على القول الراجح  جائز وصحيح في قول للمالكية وبعض العلماء منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.  
4- ألا يكون إشهاد ولا إعلان فهو باطل لأنه فاته الإعلان وفاته الإشهاد.  

قال إمام الحرمين أبي المعالي الجويني: "فيما يخص الولي والشهود" فمما لا يكاد يخفى اعتباره صورة العقد بالإيجاب والقبول، أما الولي والشهود فمما اختلف العلماء في أصله وتفصيله". "فإنا لو شرطنا في خلو الزمان العلم بانعقاد النكاح واشتماله على الشرائط المرعية وعنوه عن المفسدات لما حكمنا بصحة نكاح أصلا مع دروس العلم بالتفاصيل"([18]).

ويشترط في الشهود الأهلية بالبلوغ والعقل وسماع رضا العاقدين وكلامهما ورضا الولي، ومقدار المهر إن عين في المجلس.
وقد اختلف الفقهاء في العدالة والذكورة والإسلام فاشترط الجمهور رجلين عدليين مسلمين.
وقال أبو حنيفة: بجواز شهادة غير العدول لأن اشتراط العدالة حرج ومشقة وإذا قلنا بها أبطلنا كثيرا من عقود المسلمين.

وقالوا بجواز شهادة النساء مع الرجال في الأموال والنكاح والرجعة والطلاق ورجح ذلك ابن القيم وقال: "إذا جوز الشارع استشهاد النساء في وثائق الديون التي تكتبها الرجال وهى تكتب غالبا في مجامع الرجال"([19]) "فالقول بأن النكاح يحضره عادة الرجال لذلك لا تلي المرأة عقد النكاح فيه نظر فقد أجاز الله تعالى شهادتها في الديون وهى غالبا ما يحضرها الرجال".

وقال محمد وزفر والشافعي وأحمد لا تجوز شهادة أهل الكتاب. وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف شهادة كتابيين إذا تزوج مسلم كتابية([20]).
ودليل الجمهور: الزواج زواج مسلم ولا شهادة لغير المسلم على مسلم وليذيع وينشر بين المسلمين.
وقال أبو حنيفة: الشهادة على المرأة وهي كتابية فيجوز شهادة كتابي عليها"([21]).

والظاهر أن الزواج يصح برجل وامرأتين، ويجوز بمستور الحال من المسلمين وفي حالة الضرورة يصح بغير العدول.
قال العلامة محمد أبى حامد الغزالي: "حضور شاهدين ظاهري العدالة، فإن كانا مستورين حكمنا بالإنعقاد للحاجة"([22]).

قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: "ولو شرطنا في خلو الزمان العلم بانعقاد النكاح واشتماله على الشرائط المرعية وعنوه من المفسدات لما حكمنا بصحة نكاح أصلا مع دروس العلم بالتفاصيل"([23]).

ويقول العز بن عبد السلام: (من أتى شيئا مختلف في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا).

ويقول: (لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل  المصالح المذكورة، بل قدمنا أمثل الفسقة فأمثلهم، وأصلحهم للقيام بذلك، فأصلحهم بناء على أنا إذا أمرنا بأمر أتينا منه بما قدرنا، وسقط عنا ما عجزنا عنه، ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل)([24]).  

[1] موسوعة فتاوى النبي ودلائلها الصحيحة من السنة الشريفة- لابن خليفة عليوى- مج1ص178/180.
[2] رواه الإمام احمد في مسنده رقم 16229/ص1144.
[3] ضعيف سنن الترمذي للشيخ محمد ناصر الدين الالبانى رقم1089/ص112-قال الالبانى ضعيف إلا ما جاء في الإعلان.

[4] سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني ج 3 ص 986/987.
[5] السنن الكبرى لإمام المحدثين الحافظ الجليل أبى بكر احمد بن الحسين ابن على البيهقي ج 7 ص 288.

[6] ضعيف سنن الترمذي للألباني رقم 1103/ص113/114 -قال الترمذي هذا حديث غير محفوظ إلا ما روى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة مرفوعا وروى موقوفا والصحيح ما روى عن ابن عباس"لا نكاح إلا ببينة" نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني مج3/ج5/258/.

[7] نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني ج 6. ص 134.
[8] السنن الكبرى للبيهقي رقم13645/ج7/ص181.
[9]  المرجع السابق حديث رقم 13718/ج7/ص202.

[10] نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني ج 6 ص 258/260.
[11] موسوعة  فتاوى النبي ودلائلها الصحيحة من السنة الشريفة  لابن خليفة عليوى مج 1/ح2/ ص 180.
[12] مجموع الفتاوى للشيخ ابن تيمية تقي الدين احمد 32 ص 35.

[13] رواه الترمذي رقم 1089/ص112/113 وحسنه الألباني في الإرواء ورواه احمد وصححه الحاكم.
[14] أحكام الزواج للشيخ ابن تيمية تقي الدين احمد الصفحة 53.
[15] القواعد الفقهية على احمد الندوىص387" بلفظ إذا بطل الأصل يصار إلى البدل" وهو المشهور عند الشيخ الزرقا في شرحه للقواعد الفقهية ص286.

[16] مقاصد الشريعة الإسلامية الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ص 160.
[17] المرجع السابق ص 129.
[18] أنظر غياث الأمم في التياث الظلم إمام الحرمين أبو المعالي  الجويني ص 369/ 371.

[19] فقه السنة للشيخ سيد سابق ج3/ص243.
[20] محاضرات في عقد الزواج وأثاره الإمام محمد أبو زهرة ص-95 -فقه السنة الشيخ سيد سابق مجلد2/ص40.
[21] محاضرات في عقد الزواج وآثاره  محمد أبو زهرة ص 94. الأحوال الشخصية عبد الوهاب خلاف ص26- الهداية لأبى الخطاب ص386.

[22] احياء علوم الدين حجة الإسلام العلامة محمد أبى حامد الغزالي المجلد الثاني ص90 طبعة دارا لجيل.
[23] غياث الأمم في التياث الظلم  إمام الحرمين  أبو المعالي الجويني ص371.
[24] انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام العز بن عبد السلام  –ج2/ص19.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال