التنمية السياسية العربية ضرورة وطنية وقومية.. المبادئ السياسية الاجتماعية التي تنظم بالفعل العلاقات الداخلية والخارجية الحاكمة لحركة الواقع العربي



أنتجت الأنظمة العربية وخلال تاريخها الطويل حياة سياسية صعبة وقاسية على الإنسان العربي، إما لأنها لم تواكب العصر ومستجداته، أو لأنها لم تف بمتطلبات الإنسان العربي في النهضة والعمل العربي المشترك والوحدة وغير ذلك من أهداف وطموحات، أو أن بعضها بقي يمارس السلطة بأسلوب وآليات قديمة لا تتكافأ مع حقوق الإنسان العربي المتعاظمة، لأن تحديات المرحلة أوجبت عليه البحث عن دور له في وطنه وأمته وحتى في العالم.‏

وكان هذا معناه أن الحياة السياسية في الوطن العربي، بحاجة ماسة إلى تنمية سياسية، تترافق وتتماشى مع تنمية اقتصادية اجتماعية وثقافية تتجاوز الحالة السياسية التقليدية التي تفتقر بطبيعتها وبنيتها إلى طبقة متوسطة تشكل الرهان الحقيقي في النهضة والتنمية، غير أن التنمية السياسية المطلوبة للوطن العربي، هي التي تقوم على أساس أن الإنسان العربي يمثل جوهر التنمية وهدفها الأول.‏

وهذا المستوى من التنمية هو الذي يعطي الإنسان العربي القدرة على مناهضة رياح التنمية الآتية من الخارج، لأنها الملاذ الذي تعتمد عليه الدول الأجنبية في إكمال سيطرتها على العالم، ووضع يدها على عناصر القوة التي تمكنها من الاستمرار في السيطرة.‏

وليس من المبالغة بشيء القول إنَّ أهمية التعبئة السياسية بالنسبة للوطن العربي، تكمن بما تضيفه للحياة السياسية من تحديث سياسي، وارتقاء بالسلوك الاجتماعي، والسياسي، وتطوير بنية الأحزاب العربية وفكرها، على نحو يجعلها تتخلى عن الأطروحات والشعارات التي كانت تضعها في موقع احتكار السلطة وإقصاء الأحزاب المنافسة وحجر نشاطها السياسي.‏

والحديث عن تنمية سياسية عربية يصل بها إلى مستوى المهمة الوطنية القومية التي لا تقبل التأجيل إطلاقاً. هي تلك التعبئة التي تزاوج بين الثنائية الوطنية والقومية، والخصوصية والمعاصرة، والأصالة والتحديث.

وتأخذ بالاعتبار التشابه والاختلاف بين الأقطار العربية من الناحية الاجتماعية والثقافية. وأن لا تقفز بشكل من الأشكال من فوق بنيان الدولة الوطنية التي تستريح على ثقافة، فيها مستويات من الخصوصية الوطنية: دولة / ثقافة = قطر عربي / ثقافة، وفي نفس الوقت أن لا تبالغ في التنوع الوطني لأنه في التحليل الأخير يشكل حالة قومية بفعل كثرة المشتركات، ولأن التنوع يشكل حالة إغناء للثقافات العربية: أمة عربية / ثقافة عربية = أقطار عربية / ثقافات وطنية‏ وهي أيضاً التنمية السياسية التي تضع باعتبارها المحددات الثقافية – الاجتماعية التي تشكل المحدد الرئيس للشخصية الاجتماعية الوطنية – القومية،  تلك المحددات التي تملك حضورها القوي في حال ممارسة التنمية السياسية بحثاً عن دور أفضل للأفراد والجماعات والأحزاب.

وهذا معناه للوهلة الأولى أن تكون مهمة التنمية السياسية إعادة الشأن العام للشعب العربي انطلاقاً من أنه محورها الذي تبدأ به ومنه.‏

ومن البديهي أن لكل دراسة أو بحث مشكلته التي يحاول تحليلها وتفسيرها، وبيان جبلتها، والسنن والقوانين التي تحكمها، وفرزها وفق الأنساق التي يتكون منها البناء الاجتماعي وهي: النسق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وأنساق الضبط الاجتماعي، وأبرزها وأهمها النسق السياسي.‏

وحيث أن التنمية السياسية تشكل جزء من موضوع الدراسة، فإنها تطرح نفسها بوصفها إشكالية تبحث عن تفسير مقنع لها، يقول العلم الانثروبولوجي السياسي كلمته فيها، بناء على مكوناتها الأساس: المجال الجغرافي والبشري والزمني، بالإضافة إلى العناصر والسمات السياسية التي تشكل بنيان التنمية ومجالها، الذي تمارس فيه تنظير التنمية السياسية غداة توصيفها، والإشارات والرموز التي تؤشر إليها، والتي تفضي في نهاية الأمر إلى تشكيل النظريات التي قالت وتقول كلمتها في التنمية السياسية باعتبارها نسقاً مجتمعياً.‏

وعلى هذا الأساس، فإن التنمية في هذه الدراسة لا تقتصر على مجرد معرفتها منهجياً، ومن ثم تطبيقاتها التي يحكمها هذا المنهج أو ذاك، وإنما هي البحث والتفصيل في إجراءاتها داخل الوطن العربي، أي داخل أنساقه السياسية المحلية والوطنية والقومية، وما يلزمها من إجراءات رسمية وأداء شعبي والفكر الذي يوجهها، والأحزاب التي تتشارك في تنفيذ هذه التنمية، أو تتقبلها بصدر رحب، لأن التنمية تتقصد تحديث الأحزاب، وتفعيل أنشطتها، وتطوير عقائدها وبنيانها التنظيمي، وإبراز شرعياتها التي يتوافق عليها المجتمع في عقده الاجتماعي.‏

والباحث إذ يدرك إدراك العارفين بالأمر السياسي، بأن الوطن العربي، أعني واقعه، أصبح يطرح نفسه للتغيير بكل أنساقه البنائية، وفي هذه الحالة تضفي التنمية على نفسها البعد الاجتماعي، أو المجتمعي، بمعنى أن التنمية السياسية لا يمكن أن تنجح في تحقيق أهدافها إلا إذا طالت كل أنساق البناء الاجتماعي.‏

كذلك فإن الدراسة تحقق أهميتها لا لأنها تجعل من التنمية السياسية موضوعها، وإنما لأنها تعالج التنمية السياسية في سياق وإطار الوطن العربي، وتعتني على وجه التحديد بالواقع الاجتماعي العربي بما فيه من مشكلات ملحة فضلاً عن همومه السياسية والتحديات التي تواجهه في الداخل والخارج.‏

وهي إذ تختار الواقع العربي فلأنها تراه قد وصل إلى حالة من الركود يفرض قساوة الواقع وتصلبه، إلى الحد الذي يناهض إرادة الناس وتوجهاتهم وتطلعاتهم المشروعة، فالواقع هو الذي يحدد تلك الاتجاهات التي تلتزم بها التنمية السياسية باعتبارها عوامل متغيرة،  والواقع الاجتماعي العربي هو الذي يوفر الشروط الموضوعية، من أجل ظهور قوى اجتماعية جديدة لها مطالبها ووجهتها في التغيير، بل هي التي تأخذ على عاتقها مهام التغيير وإنجازه في لحظته الزمنية، وهي في مهمتها هذه تسعى وتنشط في ميدان التحديث والتقدم، لأنهما يسكنان في جوهرها من أجل الانتقال بالحاضر إلى المستقبل مستجيبة بذلك إلى حركة الواقع العربي وجدله الاجتماعي.‏

إذاً، فالتنمية السياسية تعد حركة تغيير محسوبة ومخططة ومدروسة، تستهدف تحديث الحياة السياسية العربية، كما نتصورها.

ومن البديهي أن يكون الوطن العربي هو ميدان ومجال الدراسة بمعنى أنها عندما تمضي في الاقتراب من مفهوم التنمية السياسية تضع باعتبارها أنها تحاول أن تسحب هذا المفهوم على الوضع السياسي في الأقطار العربية بحثاً وتحليلاً عن المداخل والمقدمات التي تنهض بالعمل والفعل السياسي الرسمي والشعبي، وعن المشترك فيه، وعن معاناة الناس السياسية، وما إذا كانت سياسات الأنظمة العربية والأحزاب على الساحة السياسية تخدم القضايا العربية، أو تعاكسها وتناهضها.‏

وقد قدمت الدراسة دواعيها أو أسبابها التي دعتها لاختيار الوطن العربي، أبرزها حقوق الإنسان العربي التي تأتي في خدمة تطلعاته وأهدافه، ومعركة المستقبل العربي.‏

وتجدر الأشارة على ملاحظة ما يجري في الوطن العربي من أحداث، وما تعلنه المحطات الفضائية من أخبار حول تعسف الكثرة من السلط العربية تجاه حرية الإنسان العربي السياسية، وما تنشره الصحف حول الاعتقالات، ومنع المظاهرات، وحجب المواقع الالكترونية، ومصادرة الصحف، ووقف الأنشطة السياسية، وعمليات الفصل والإقصاء التي تقوم بها بعض الأحزاب السياسية للإنسان العربي لا تؤهله، بل لا تمكنه على الإطلاق من أن يمارس دوره بنجاج داخل مجتمعه، وتحول دون نجاحه في الوصول إلى الحد الأدنى من أهدافه وتطلعاته المحلية والوطنية والقومية.‏

إن مفاهيم الاستبداد والظلم الاجتماعي، وقهر الإنسان تتكاثر داخل الثقافة السياسية إلى الحد الذي تكاد تكون فيه الوجه الآخر للسياسة الثقافية التي تكونها وتعيد ترتيب أولوياتها الأنظمة العربية، لذا فإن التنمية السياسية في الوطن العربي إذا أرادت أن تنجح في مهمتها التنموية، فإن عليها أن تبدأ بالثقافة السياسية العربية بكل مستوياتها المحلية والوطنية والقومية، بحيث تبرز القيمة الإنسانية للمواطن العربي وحقوقه المقدسة وأنه الأساس والهدف في كل عمليات التنمية وطموحاتها، وأن تكثر من المفردات والمفاهيم التي تخص قضايا الحرية والديمقراطية وحرية الفكر والقول والتعددية السياسية وحق المواطن العربي في نقل السلطة السياسية من خلال صناديق الانتخاب أو الاقتراع.

ومع أن الدراسة تشير إلى حقيقة التنوع في الثقافة السياسية داخل الأقطار العربية، وتقول باختلاف دائرة المفاهيم والمقولات والأطروحات الخاصة بحقوق الإنسان إلا أنها تؤكد أن هامش هذه الحقوق ليس واحداً في كل الأقطار العربية.‏

لكن هذا كله لا يجعل الدراسة تتراجع عن رأيها في أن التنمية السياسية لا بد أن تبدأ في نطاق الثقافة السياسية، فإذا نجحت في إحداث تحولات جذرية داخل بنيان هذه الثقافة باتجاه ونحو قضايا الإنسان العربي المصيرية، وعلى أنه الأولى بشأنه العام. فإنها ستجد أمامها الأبواب مفتوحة لتنهض بالتحديث السياسي الذي يقرره الواقع الاجتماعي العربي، وتبلغ أهدافها في إحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية المتعبة والمنهكة بفعل الإقصاء وغياب الحوار الاجتماعي السياسي والاستئثار بالسلطة.‏

إن جوهر التنمية له بعده المستقبلي بمعنى أنها تفعل في الواقع الاجتماعي العربي لنقله مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، ولذلك نفترض أن التنمية السياسية تمثل شرطاً لتحديث الحياة السياسية العربية، وهي بشرطها هذا تستجيب للواقع العربي الصعب والقاسي الذي يحتاج إلى عملية تغيير سياسي قوامه أن الوطن العربي لن يبلغ النهضة، إلا إذا كان الإنسان العربي جوهر عمليات التنمية بكل مضامينها ومجالاتها وسيد قراره السياسي.‏

إن المفاهيم التي تغطي وتستوعب موضوع التعبئة السياسية وإجراءاتها على أرض الواقع الاجتماعي العربي، بمعنى آخر إن هذه المفاهيم أو المفهومات هي في التحليل الأخير من مفرزات الحالة السياسية العربية الراهنة، حيث أنها هي التي تقرر دواعي التنمية السياسية بل توجبها.

وهي أيضاً تقرر وتحدد أبعادها وميادينها، لأن التنمية السياسية كما أسلفنا عملية تغيير داخل النسق السياسي العربي للانتقال به من الواقع العربي الراهن إلى الواقع الذي يجب أن يكون عليه في المستقبل، والتنمية السياسية إذا وضعت نفسها أمام الواقع العربي تستطلعه وتستكشفه، فإنها معنية أن تعرف يقيناً المبادئ السياسية الاجتماعية التي تنظم بالفعل العلاقات الداخلية والخارجية الحاكمة لحركة الواقع العربي، في حالاته المحلية والوطنية والقومية.‏

ونخلص من الأفكار السابقة إلى أن المفاهيم، هي في نهاية الأمر آليات ومفاتيح تفتح بها التنمية السياسية الأبواب المغلقة على الواقع العربي، وتعلن عن وجودها فيه، من أجل أن تباشر عملياتها ولذلك تم أختيار مفهوم النسق السياسي.


ليست هناك تعليقات