حرب البسوس: ملحمة الثأر القبلي في الجاهلية - من استبداد كليب وائل إلى استعراض قوة الحارث بن عباد

حرب البسوس: ملحمة الثأر القبلي في جاهلية العرب

تُعد حرب البسوس واحدة من أطول وأشهر الحروب في تاريخ العرب قبل الإسلام، حيث يُقدر أنها استمرت ما بين 90 إلى 130 قبل الهجرة النبوية، أي ما يعادل تقريبًا أربعين عامًا (495-535 م). نشبت هذه الحرب الطاحنة بين قبيلتي بكر وتغلب، وهما من أكبر وأعرق القبائل العربية في ذلك الزمان، وكانت دوافعها تتجاوز مجرد حادثة قتل ناقة لتصل إلى صراع على السلطة والسيادة والكرامة القبلية.


كليب وائل: السلطة المطلقة ونفوذ السيد

كان كليب وائل، واسمه الأصلي وائل بن ربيعة التغلبي، سيدًا مطاعًا وذا نفوذ طاغٍ في قومه. وصلت سلطته إلى حد الاستبداد والتحكم في الموارد الطبيعية، وهو أمر كان ذا أهمية قصوى في بيئة صحراوية قاحلة. كان كليب يتمتع بقوة ونفوذ مكّناه من احتكار مواقع المطر والمراعي.

كانت عادته أنه إذا نزل المطر في أرضٍ ما، أو سالت عين ماء، أو نبت عشب، يأتي كليب ويربط كلبه (ويُروى أن اسم كلبه كان "كليب"، ومن هنا جاء لقبه "كليب وائل" أو "كليب" اختصارًا) في ذلك المكان. وبمجرد سماع عواء هذا الكلب أو رؤية وجوده، كان يُحظر على أي شخص الاقتراب من الماء أو رعي ماشيته في تلك المنطقة إلا بإذن مباشر من كليب. هذا التصرف يعكس مدى سيطرته ونفوذه، وربما بدأ يثير حنق بعض الأفراد والقبائل الأخرى بسبب تضييقه عليهم. كان كليب يسعى بذلك لتأكيد زعامته المطلقة وعدم مشاركة أحد له في سيادته.


جسّاس الشيباني: صلة القرابة ودوافع الغضب

كانت لكليب وائل زوجة، هي الجليلة بنت مرة الشيبانية، وكانت لها أخوة ينتمون إلى قبيلة بكر، ومن أبرزهم جسّاس بن مرة الشيباني. كانت إبل الجليلة وإبل أخيها جسّاس ترعى جنبًا إلى جنب مع إبل كليب في ذات المرعى، وهذا يدل على وجود صلة قرابة وتداخل بين القبيلتين.

في يوم من الأيام، نزل قوم من أقارب جسّاس ضيوفًا عليه، وكان معهم ناقة اسمها "البسوس" (وهي ملك لجار لها اسمه سعد بن شمس)، وهذه الناقة كانت ضعيفة أو مريضة، فلذلك كانت تُعامل بعناية خاصة. رعت البسوس مع إبل جسّاس وإبل كليب في المرعى نفسه.


حادثة قتل البسوس واندلاع شرارة الحرب:

رأى كليب هذه الناقة الغريبة بين إبله، ولم يدرِ لمن هي أو أنها تعود لجار ضيف أخ زوجته. فاشتد غضبه، ربما بسبب تجاوز الناقة لمناطق الحماية التي فرضها، أو ربما تعمدًا لتأكيد سيطرته. دون تردد، أطلق كليب سهمًا على الناقة فقتلها.

كان قتل الناقة إهانة بالغة لضيوف جسّاس ولجسّاس نفسه، لأنه لم يستطع حماية جيرانه وضيوفه. فعرض أصحاب الناقة وضيوف جسّاس به، ولاموه بشدة على عدم حماية حرمتهم وماشيتهم. هذا اللوم كان بمثابة وخز للكرامة الشخصية والقبلية لجسّاس. فاشتاط جسّاس غضبًا وحنقًا على كليب، ولم يتمالك نفسه. على الفور، ثار جسّاس على كليب وقتله.

أشعلت هذه الحادثة شرارة حرب دموية بين قبيلتي بكر وتغلب. لم تكن مجرد معارك متقطعة، بل كانت عداوة مستمرة استمرت ما يقرب من أربعين عامًا. كانت فترة طويلة من الثأر المتبادل، حيث تُركت الأراضي الخصبة وأُهملت الحياة الاجتماعية والاقتصادية لصالح هذه الدوامة من العنف. يُذكر أن جسّاس الشيباني كان آخر من قُتل في هذه الحرب نحو عام 534م، مما يشير إلى أن النزاع استمر حتى إفناء العديد من قادة القبيلتين.


الحارث بن عباد: الحكيم الذي دفع ثمن الحياد

كان الحارث بن عباد البكري من سادات قبيلة بكر، وكان معروفًا بحكمته وشجاعته وقدرته على القيادة. عندما نشبت حرب البسوس، حاول الحارث بن عباد أن يبقى على الحياد، مُدركًا أن هذه الحرب لن تجلب سوى الدمار والخراب لقبيلته وقبيلة تغلب على حد سواء. اعتزل الحرب لفترة طويلة، داعيًا إلى الصلح وتجنب المزيد من إراقة الدماء.

ولكن المهلهل بن ربيعة، أخو كليب، الذي كان قائد تغلب وكان مصرًا على الثأر، استمر في سفك الدماء. بلغ به الأمر أن ارتكب جريمة شنيعة عندما قتل بُجَيْر بن الحارث بن عباد غدرًا في إحدى المعارك، قاصدًا بذلك استفزاز الحارث وإجباره على الانضمام إلى القتال، وربما اعتقادًا منه أن الحارث لن يقدم على القتال.

عندما وصل خبر مقتل ابنه بُجير غدرًا، حزن الحارث بن عباد حزنًا شديدًا، وأدرك أن الحياد لم يعد خيارًا. تحول حزنه إلى غضب عارم، ودخل الحرب بضراوة لم تشهدها القبيلتان من قبل. يُقال إن الحارث بن عباد قال كلمته المشهورة: "لقد بكر بي الغارة قبل الإبل"، أي أن المصيبة جاءت بقتل ابنه قبل غزو الأعداء لإبله. عندما دخل الحارث الحرب، دارت الدائرة على قبيلة تغلب، وتكبدت خسائر فادحة أمام بسالة الحارث وقومه، مما أدى إلى قلب موازين القوى في الحرب.

تُعتبر حرب البسوس مثالًا صارخًا على طبيعة الثأر القبلي في الجاهلية، وكيف أن حادثة بسيطة يمكن أن تُشعل نزاعًا يستمر لعقود، مُنهكًا القبائل ومُغيرًا خارطة علاقاتها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال