المدح في العصر الجاهلي.. الإعجاب الاجتماعي بصور الفضائل التي تبهر النفس، وتدفعها إلى تخليد المآثر المقيدة بالمثل العليا القائمة على تقديس سمات المثل العليا



لقد تحكم العرف الاجتماعي في طبيعة معالجة كل غرض من أغراض النموذج الجاهلي، وفي توجيه تفاصيله أحيانا، فكانت قصيدة المدح ميدان التعبير عن الإعجاب الاجتماعي بصور الفضائل التي تبهر النفس، وتدفعها إلى تخليد المآثر المقيدة بالمثل العليا القائمة على تقديس سمات القوة، والكرم، والشجاعة، وحفظ العهد، وحماية الجار، ورعاية الضعيف، والتعفف عن دنايا الأمور.

ومن هنا تشابهت مجاري نماذج المديح، وإن ظلت أساليبها مشدودة إلى قدرة الشاعر على التشخيص الفني ،ومنح الصورة أبعادها التفصيلية المتميزة.

ويبدو أن الدافع القبلي ظل مدارا أصيلا لنماذج المديح خلال العصر كله.
على أن بروز المنفعة الذاتية في بعض النماذج لا ينبغي أن يغرينا بتفسير جديد، ذلك أن مصلحة الفرد تظل مشدودة إلى مصلحة القبيلة بأكثر من سبب.

ولهذا فإننا لا نميل إلى طرح الحيطة عند النظر فيما أراد ابن رشيق ان يقرره بشأن النابغة مثلا حين أشار إلى أنه كان (يتكسب) بالشعر في بلاط النعمان.

ذلك أن ابن رشيق نفسه كان يدرك أن وجود النابغة في بلاط النعمان لم يكن إلا ضربا من السفارة الممثلة لمصالح ذبيان عند الساسانيين، وإن ما فاز به من وجوه الاكرام الشخصي لم يكن إلا نتيجة ثانوية لا ينبغي أن تدفع إلى تعجيل الأحكام.

على أن الأمر قد يختلف قليلا بالنسبة إلى الأعشى الذي صرح بطلبة للمال في الآفاق، وسخر عددا من قصائده لهذا الغرض حتى غدا مسلكه غريبا بالقياس إلى العصر الجاهلي، ونواة جديدة للتحول بهذا الفن من بواعثه الاجتماعية والانسانية إلى حيز البواعث الشخصية الخالصة، التي غدت مدار فن المديح، فيما تلا ذلك من عصور الشعر العربي.