إن تسليم الشهادة الطبية يقتضي من الطبيب، باعتبار التعارض الذي قد ينشأ بين الحق في سرية الحياة الخاصة والحق في الإثبات، ضرورة احترام الالتزام بالسر المهني الذي يعتبر إفشاؤه جريمة عاقب عليها المشرع المغربي في الفصل 446 من مجموعة القانون الجنائي، مثلما يعتبر كتمانه واجبا أدبيا نص عليه الفصل الرابع من مدونة الآداب المهنية للأطباء.
وقد اختلف الفقه والقضاء في فرنسا حول أساس التزام الطبيب بالسر المهني وما يترتب على ذلك من تحديد لطبيعته، حيث يمكن أن نميز في هذا الإطار بين اتجاهين:
ذهب اتجاه أول تزعمه الفقيهان "ميتو" و"برورديل" وأخذ به القضاء الفرنسي في بعض أحكامه، إلى أن الالتزام بالسر المهني يجد أساسه في القانون وفي النظام العام، وبالتالي فهو ذو طبيعة مطلقة لا يمكن للإرادة أن تلعب دورا في حل الطبيب منه، في الوقت الذي يمكن فيه لهذا الأخير أن يحتج به في مواجهة كل من القضاء والإدارة.
وهو الاتجاه الذي يكرسه الفصل الرابع من مدونة الآداب المهنية للأطباء حسب الدكتور عمر عزيمان.
غير أن هذا الاتجاه يظل منتقدا من عدة أوجه.
فمفهوم السر المطلق يرتبط من جهة أولى بالإديولوجية البرجوازية التقليدية والبنيات السوسيوثقافية للمجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر، حيث كانت الهيمنة للفردانية، وحيث كانت العلاقة بين الطبيب وزبونه تعتبر مسألة خاصة وشخصية وحميمية يتعين تخليصها من كل نظرة تطفل. وعليه فإن نقل هذا المفهوم إلى المغرب غير ملائم على الإطلاق للواقع المحلي الذي لا يمكن للفردانية فيه أن تحل مشاكل الصحة،والذي يفرض على الطبيب أن يغادر برجه العاجي ويساهم في عمليات الإعلام والتوعية والتنوير والوقاية، لينزع صفة القداسة عن محراب الصمت.
ومن جهة ثانية فإنه لا يوجد أي تبرير اجتماعي جدي لإضفاء طابع الإطلا ق على الالتزام بالسر المهني ما دام يقود إلى نتائج غير مقبولة من وجهة نظر المجتمع ، حيث يسمح للأطباء بالتخلص من رقابة السلطات العمومية ومن واجب مساعدة العدالة، إضافة إلى أن من شأن هذا التوجه أن يحيط ممارسة المهنة بعتمة خطيرة ومثيرة.
أما الاتجاه الثاني، فيرى أن التزام الطبيب بالسر المهني يجد أساسه في العقد الطبي الذي يربطه بزبونه استنادا على الفصل 231 من قانون الالتزامات والعقود المغربي المقابل للفصل 1135 من القانون المدني الفرنسي، الذي يجعل المتعاقد ملتزما بكل ملحقات الالتزام التي يقررها القانون أو العرف أو العدالة ، وليس بما وقع التصريح به فحسب. ذلك أنه حتى على فرض عدم اتفاق الطبيب مع زبونه على هذا الالتزام صراحة بمناسبة إبرامهما للعقد الطبي ، فإن مدونة الآداب المهنية للأطباء قد قررته صراحة في الفصل الرابع منها، كما أنه لا يمكن لأحد أن ينازع في أن العرف يتطلب وجوده.
وعليه فأساس اعتبار هذا الالتزام تعاقديا إنما يرجع إلى كونه ما كان ليترتب أو لينشأ لولا وجود العقد. أما وصف الالتزام بأنه مهني وأن القانون قد نظم وحدد الالتزامات التي يقتضيها أداء المهنة فإنه لا يؤثر على كونه قد نشأ بموجب العقد ما دام الطرفان قد اعتبراه المصدر الأساسي لعلاقتهما. كما أنه لا يؤثر على هذا الوصف كون الخروج على هذا الالتزام معاقب عليه جنائيا، لأن وجود عقاب جنائي لا تأثير له على الطبيعة القانونية، وكل ما في الأمر أن المشرع قد ربط المصلحة الخاصة الموجودة في العقد بالمصلحة الاجتماعية ، ولذلك أراد أن يحميها ضد التقصير المحتمل وقوعه.
ويترتب على الأخذ بالأساس التعاقدي للالتزام بالسر المهني اعتباره ذو طبيعة نسبية. لكن القول بأن هذا الالتزام يجد أساسه في العقد ليس كل شيء، فهو التزام يقوم على مصلحتين هما المصلحة الخاصة للزبون والمصلحة العامة للصحة العمومية، وبالتالي فإنه يكون للطبيب أن يرفض الإفشاء رغم إعفائه من الالتزام بالسرية من جانب الزبون، لأنه إذا كان هذا الأخير حكم مصلحته الخاصة، فإنه ليس كذلك بالنسبة للمصلحة العامة.
غير أن هذا لا يعني الرجوع إلى نظرية السر المطلق وإنما يكفي الاستناد على الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود المغربي المقابل للفصل 1134 من القانون المدني الفرنسي الذي لا يجيز إلغاء الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح إلا برضى منشئيها معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون، وذلك للقول بأن إرادة الزبون وحدها عاجزة عن إنهاء هذا الالتزام، وأنه لابد من توافقها مع إرادة الطبيب الذي يقدر في النهاية ما إذا كانت المصلحة تستدعي الإفشاء أم الكتمان.
وعليه فإن المصلحة العامة تكون محمية سواء عند القائلين بأن السر المهني يجد أساسه في النظام العام أم عند القائلين بأنه يجد أساسه في العقد ، وذلك بخلاف المصلحة الخاصة للزبون والتي لا تكون محمية إلا عند أنصار الأساس التعاقدي. مما يؤكد الطبيعة النسبية لهذا الالتزام.
التسميات
الشهادة الطبية والسر المهني