معاداة السامية في ألمانيا والنمسا: إرث ثقيل وتحديات معاصرة
تُعد معاداة السامية ظاهرة تاريخية معقدة، وتكتسب في سياق ألمانيا والنمسا أهمية خاصة ونبرة أشد حساسية، نظرًا لدورهما المركزي في محرقة الهولوكوست التي راح ضحيتها ملايين اليهود. على الرغم من الجهود الحثيثة لمواجهة هذا العداء، إلا أن الظاهرة ما زالت تُشكل تحديًا مستمرًا، تتجلى في أشكال تاريخية ومعاصرة، وتُؤثر بشكل مباشر على حياة الجاليات اليهودية في كلا البلدين.
الجذور التاريخية لمعاداة السامية:
تعود جذور معاداة السامية في ألمانيا والنمسا إلى قرون طويلة، متأثرة بعوامل دينية، اجتماعية، واقتصادية:
- معاداة السامية الدينية: تاريخيًا، كانت الكراهية ضد اليهود في أوروبا متجذرة في تفسيرات لاهوتية معينة تُحمل اليهود مسؤولية صلب المسيح. أدت هذه الاتهامات إلى اضطهادهم، وطردهم من مناطق مختلفة، وفرض قيود عليهم.
- معاداة السامية الاقتصادية: غالبًا ما كان يُنظر إلى اليهود على أنهم "غرباء" أو "مستغلون" بسبب دورهم في بعض المهن مثل الإقراض، مما أثار الاستياء والاتهامات بالسيطرة على الاقتصاد.
- ظهور مصطلح "معاداة السامية" العرقي: في أواخر القرن التاسع عشر، برز مفهوم "معاداة السامية" كمصطلح سياسي وعلمي في ألمانيا لوصف الكراهية لليهود بناءً على أصلهم العرقي، وليس فقط دينهم. هذا التحول كان خطيرًا لأنه أرسى الأساس لتمييز عنصري منهجي.
- صعود النازية والهولوكوست: بلغت معاداة السامية ذروتها المأساوية مع صعود الحزب النازي في ألمانيا وتوسعه ليشمل النمسا. تبنى النازيون أيديولوجية عنصرية تُصوّر اليهود على أنهم "تهديد بيولوجي" للعرق الآري. أدت هذه الأيديولوجية إلى اضطهاد ممنهج، سلب للممتلكات، عزل اجتماعي، وفي النهاية، الإبادة الجماعية المروعة (الهولوكوست) التي راح ضحيتها ستة ملايين يهودي. شمل ذلك أحداثًا مروعة مثل "ليل الزجاج المكسور" (Kristallnacht) في نوفمبر 1938، حيث دمرت المعابد اليهودية والمتاجر في ألمانيا والنمسا، إيذانًا ببدء مرحلة العنف المنظم.
أشكال معاداة السامية الحديثة:
على الرغم من الالتزام الرسمي بمكافحة معاداة السامية، لا تزال هذه الظاهرة تتجلى بأشكال مختلفة في ألمانيا والنمسا اليوم:
- معاداة السامية اليمينية المتطرفة: تُعد هذه الفئة الأكثر تقليدية ووضوحًا، وتُظهر نفسها من خلال إنكار الهولوكوست، تمجيد النازية، نشر نظريات المؤامرة حول السيطرة اليهودية على العالم، والاعتداءات اللفظية والجسدية.
- معاداة السامية ذات الدوافع المعادية لإسرائيل (New Antisemitism): يُشكل هذا النوع تحديًا معقدًا، حيث يُموه الكراهية لليهود بانتقاد (في بعض الأحيان مبالغ فيه أو غير مبرر) لسياسات دولة إسرائيل. قد تتضمن اتهامات لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب، أو مقارنة سياساتها بسياسات النازيين، أو تحميل اليهود في الشتات مسؤولية أفعال الحكومة الإسرائيلية. يُصعب التمييز هنا بين الانتقاد المشروع لسياسات دولة والتحيز المعادي للسامية.
- معاداة السامية القادمة من المهاجرين: تشير بعض التقارير إلى وجود أشكال من معاداة السامية بين بعض المهاجرين، لا سيما القادمين من دول ذات خلفيات ثقافية أو سياسية معادية لإسرائيل. هذا النوع يُطرح غالبًا في النقاشات حول الاندماج والتحديات الثقافية.
- نظريات المؤامرة: تنتشر نظريات المؤامرة المعادية للسامية عبر الإنترنت، وتُحمل اليهود مسؤولية أحداث عالمية (مثل الأزمات الاقتصادية أو الأوبئة) أو تصفهم بالتحكم الخفي بالعالم.
- التخريب والرموز المعادية للسامية: تشمل حوادث تخريب الممتلكات اليهودية، رسم رموز النازية (مثل الصليب المعقوف)، وكتابات الكراهية على الجدران.
الإحصائيات والتحديات:
تشهد كلتا الدولتين، ألمانيا والنمسا، ارتفاعًا في حوادث معاداة السامية في السنوات الأخيرة، خاصة بعد أحداث مثل جائحة كوفيد-19، واندلاع الصراع في الشرق الأوسط (مثل هجوم 7 أكتوبر 2023 وما تلاه من أحداث).
- في ألمانيا: سجلت السلطات الألمانية ارتفاعًا ملحوظًا في الجرائم المعادية للسامية. ففي عام 2021، سجلت السلطات حوالي 3028 جريمة، بزيادة تقارب 700 جريمة عن عام 2020. ووفقًا لتقارير حديثة لعام 2023، شهدت حوادث معاداة السامية زيادة بنسبة 83%، مع استهداف متزايد لليهود في الأماكن العامة والمؤسسات. يعكس هذا الارتفاع المتصاعد قلقًا عميقًا في الجالية اليهودية التي تتزايد أعدادها في ألمانيا، حيث يبلغ عدد أعضائها المسجلين حوالي 118,000، وأغلبهم من المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق.
- في النمسا: أكدت وزيرة الدستور والعلاقات الأوروبية، كارولين إدتشتادلر، أن النمسا تُعتبر رائدة في أوروبا لمكافحة معاداة السامية. ومع ذلك، شهدت النمسا أيضًا ارتفاعًا كبيرًا في حوادث معاداة السامية منذ 7 أكتوبر 2023. يدعو رئيس الجالية اليهودية في فيينا، أوسكار دويتش، القضاء النمساوي إلى اتخاذ إجراءات أكثر حزمًا لمكافحة معاداة السامية. يبلغ عدد السكان اليهود في النمسا حاليًا حوالي 12,000–15,000 شخص، يعيش معظمهم في فيينا، غراتس، وسالزبورغ.
جهود المكافحة والاستجابة الحكومية:
تُظهر كل من ألمانيا والنمسا التزامًا قويًا بمكافحة معاداة السامية، مدفوعتين بمسؤوليتهما التاريخية:
- الاعتراف والذكرى (Remembrance): تُكرس كلتا الدولتين جهودًا كبيرة لذكرى الهولوكوست. تحتفل ألمانيا بـ"اليوم الوطني لذكرى ضحايا الاشتراكية القومية" في 27 يناير (يوم تحرير معسكر أوشفيتز)، وتُقام العديد من الفعاليات التذكارية في جميع أنحاء البلاد. في النمسا، يُقام حفل وطني سنويًا في 5 مايو (يوم تحرير معسكر ماوتهاوزن)، بالإضافة إلى نصب تذكارية ومبادرات تعليمية.
- التشريعات والقوانين: تُعد قوانين مكافحة الكراهية والتحريض (Hate Speech) وإنكار الهولوكوست صارمة في ألمانيا والنمسا. تُبذل جهود لسد الثغرات القانونية المتعلقة بمعاداة السامية وضمان محاكمة مرتكبيها.
- التعريف الموحد لمعاداة السامية: تبنت الحكومتان تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" (IHRA) لمعاداة السامية، والذي يُساعد في تحديد أشكالها المختلفة، بما في ذلك تلك المتعلقة بإسرائيل.
- الدعم للمؤسسات اليهودية: تُقدم الحكومات دعمًا ماليًا ومؤسسيًا للجاليات اليهودية، للمساعدة في حفظ التراث الثقافي اليهودي، وتعزيز الحياة اليهودية، ودعم جهود الاندماج.
- التثقيف والتوعية: تُنفذ برامج تعليمية في المدارس والجامعات والمجتمع لزيادة الوعي بتاريخ الهولوكوست وخطورة معاداة السامية. تُدعم منظمات المجتمع المدني التي تعمل في هذا المجال (مثل مؤسسة أماديو أنتونيو في ألمانيا).
- الاستراتيجيات الوطنية: اعتمدت النمسا استراتيجية وطنية لمكافحة معاداة السامية، تُركز على محاور مثل القانون، حماية التراث الثقافي، والتنسيق المركزي للإجراءات.
تأثير معاداة السامية على الجاليات اليهودية:
تُحدث معاداة السامية تأثيرًا عميقًا على حياة الأفراد والمجتمعات اليهودية في ألمانيا والنمسا:
- الخوف وانعدام الأمان: يُعاني العديد من اليهود من خوف متزايد من التحرش والعنف بسبب هويتهم اليهودية. هذا الخوف يُؤثر على حياتهم اليومية، ويدفع البعض إلى إخفاء رموزهم الدينية في الأماكن العامة.
- الشعور بالتهديد: تُصبح الأحداث الكبرى، مثل الصراعات في الشرق الأوسط، لحظات يزداد فيها الشعور بالتهديد، حيث قد يُحمّل اليهود في أوروبا مسؤولية أحداث خارجة عن سيطرتهم.
- الضغط النفسي: تُسبب حوادث معاداة السامية ضغطًا نفسيًا كبيرًا، وتُجبر الأفراد على التفكير المستمر في سلامتهم.
- الجهود المجتمعية: رغم التحديات، تُظهر الجاليات اليهودية مرونة كبيرة، وتُواصل تعزيز حياتها الثقافية والدينية، وتُشارك بنشاط في جهود مكافحة الكراهية.
خلاصة:
تُعد معاداة السامية في ألمانيا والنمسا إرثًا تاريخيًا ثقيلًا، وتحديًا مستمرًا يتطلب يقظة دائمة. على الرغم من الجهود الحكومية والمجتمعية الكبيرة لمكافحتها، لا تزال هذه الظاهرة تُهدد أمن وسلامة وحياة الجاليات اليهودية. إن المعركة ضد معاداة السامية تتطلب نهجًا شاملاً يجمع بين التشريعات الصارمة، التثقيف المستمر، الدعم المجتمعي، ومواجهة جميع أشكال الكراهية، لضمان أن تبقى ألمانيا والنمسا أماكن آمنة لجميع مواطنيها، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي.