فهم الكفاية الاتصالية: نموذج "كانال" و"سوين" والمكونات الجوهرية للتواصل الفعّال
تُعد الكفاية الاتصالية (Communicative Competence) مفهومًا محوريًا في دراسة اللغة والتواصل، إذ تتجاوز مجرد معرفة القواعد النحوية لتشمل القدرة على استخدام اللغة بشكل مناسب وفعّال في سياقات مختلفة. قدم "مايكل كانال" و"ميريل سوين" إطارًا شاملًا لتحديد مكونات هذه الكفاية، مقترحين أربع قدرات رئيسية، والتي يمكن اعتبارها في الوقت نفسه مكونات أساسية تشكل الكفاية التواصلية ككل.
القدرات الأربع في نموذج "كانال" و"سوين"
1. القدرة النحوية (Grammatical Competence)
تمثل هذه القدرة حجر الزاوية في الكفاية الاتصالية، وهي الأساس الذي تُبنى عليه جميع أشكال التواصل اللغوي. إنها لا تقتصر فقط على الجانب الشكلي للغة، بل تتعداه إلى فهم المعنى الناتج عن هذا الشكل.
تتضمن هذه القدرة بشكل أساسي:
- المعرفة بالوحدات المعجمية (Lexical Units): أي امتلاك حصيلة جيدة من المفردات، وفهم معاني الكلمات واستخداماتها المتعددة، بما في ذلك المترادفات والمتضادات والتعبيرات الاصطلاحية.
- قواعد الصرف (Morphology): فهم كيفية تشكيل الكلمات وتصريفها (مثل اشتقاق الأسماء من الأفعال، وتصريف الأفعال حسب الأزمنة والضمائر، وجمع الأسماء). هذه المعرفة تسمح للفرد بتوليد كلمات جديدة وفهم الكلمات المعقدة.
- التراكيب النحوية (Syntax): القدرة على بناء الجمل بشكل صحيح وفقًا لقواعد اللغة (مثل ترتيب الكلمات، استخدام الأدوات، مطابقة الفاعل للفعل). هذا يضمن أن الجمل تكون سليمة من حيث البواعد وتمكن من نقل المعنى بوضوح.
- دلالة الجملة (Semantics): فهم المعنى الحرفي والمقصود للجمل، وكيف تتغير الدلالة بتغير التركيب أو المفردات. على سبيل المثال، فهم الفرق في المعنى بين "أكلت التفاحة" و"التفاحة أكلت".
- الأصوات (Phonology): معرفة نظام الأصوات في اللغة (النطق الصحيح، التنغيم، والتشديد) بما يضمن الوضوح في التعبير الشفهي وعدم سوء الفهم بسبب الأخطاء الصوتية.
بشكل عام، تعني هذه القدرة السيطرة على الرمز اللغوي، وهي تقابل بشكل كبير القدرة اللغوية (Linguistic Competence) التي أشار إليها اللغوي الشهير "نواعم هايمز".
2. قدرة الخطاب (Discourse Competence)
إذا كانت القدرة النحوية تمكّن الفرد من بناء جمل صحيحة، فإن قدرة الخطاب تمكّنه من تجاوز حدود الجملة الواحدة وربطها معًا لتكوين خطاب متماسك وذو معنى. هذه القدرة تسمح بتنظيم الأفكار وتقديمها في تسلسل منطقي ومترابط، سواء كان ذلك في حوار، قصة، مقال، أو أي شكل من أشكال التواصل الممتد.
تشمل هذه القدرة:
- الترابط (Cohesion): استخدام الروابط اللغوية (مثل حروف العطف، الضمائر، أدوات الربط) لربط الجمل والفقرات ببعضها البعض، مما يجعل النص متماسكًا على المستوى الشكلي.
- التماسك (Coherence): القدرة على تنظيم الأفكار بشكل منطقي ومفهوم، بحيث تكون هناك علاقات دلالية واضحة بين أجزاء الخطاب، حتى لو لم تستخدم روابط لغوية صريحة.
- تحديد بنية الخطاب: معرفة الأنماط الشائعة للخطاب (مثل السرد، الوصف، الحوار، الجدال) وكيفية تنظيم كل نمط لتحقيق أهداف تواصلية معينة. على سبيل المثال، فهم كيفية بناء مقدمة وخاتمة لمقال، أو تسلسل الأحداث في قصة.
3. القدرة اللغوية الاجتماعية (Sociolinguistic Competence)
هذه القدرة تتجاوز القواعد اللغوية الصارمة لتركز على القواعد الاجتماعية والثقافية التي تحكم استخدام اللغة. إنها تتعلق بفهم السياق الاجتماعي الذي تُستخدم فيه اللغة، واختيار الأسلوب والمفردات المناسبين لهذا السياق.
تتضمن هذه القدرة:
- معرفة القواعد الاجتماعية للغة: مثل متى نستخدم الأساليب الرسمية وغير الرسمية، وكيفية التخاطب مع شخصيات مختلفة (مثل كبار السن، المسؤولين، الأصدقاء).
- فهم الأعراف الثقافية: إدراك أنماط التواصل المقبولة في ثقافة معينة، بما في ذلك التعبيرات المجازية، الأمثال، والنكت، وتجنب تلك التي قد تكون مسيئة أو غير مناسبة.
- مراعاة السياق (Context): القدرة على تكييف اللغة مع الموقف التواصلي، بما في ذلك المكان، الزمان، العلاقة بين المتحدثين، وهدف التواصل. فمثلاً، طريقة الحديث في اجتماع عمل تختلف عن طريقة الحديث في لقاء عائلي.
- التعبير عن النوايا (Illocutionary Force): فهم كيفية استخدام اللغة لأداء أفعال معينة (مثل الطلب، الاعتذار، الوعد، التهديد)، وتحديد ما إذا كان المتحدث يستخدم صيغة معينة لغرض حقيقي أم لغرض بلاغي.
4. القدرة الاستراتيجية (Strategic Competence)
تُعد هذه القدرة عصب عملية التواصل، فقد أصبحت مكونًا قائمًا بذاته نظرًا لأهميتها البالغة. إنها تشير إلى القدرة على استخدام استراتيجيات تواصلية لتعويض النقص في القدرات الأخرى، أو للتعامل مع الصعوبات التي قد تنشأ أثناء التواصل.
تشمل هذه القدرة:
- استراتيجيات التعويض: استخدام أساليب مختلفة عندما يواجه المتحدث صعوبة في التعبير عن فكرة معينة (مثل استخدام الإيماءات، تغيير الصياغة، أو طلب المساعدة من الآخرين).
- استراتيجيات الإصلاح: القدرة على تصحيح الأخطاء اللغوية أو سوء الفهم أثناء التواصل، سواء كانت الأخطاء صادرة من المتحدث نفسه أو من المتلقي.
- استراتيجيات بدء وإنهاء المحادثة: معرفة كيفية البدء في حوار أو إنهائه بسلاسة، وكيفية التحكم في مسار المحادثة.
- استراتيجيات التوضيح: استخدام أساليب لضمان فهم الرسالة بشكل صحيح (مثل إعادة الصياغة، إعطاء أمثلة، أو طرح أسئلة للتحقق من الفهم).
المكونات الأساسية التي تشكل الكفاية التواصلية
تتضافر هذه القدرات الأربع لتشكل المكونات الأساسية للكفاية التواصلية ككل، ويمكن تفصيلها كما يلي:
1. المكون اللغوي (Linguistic Component)
يتطابق هذا المكون بشكل كبير مع القدرة النحوية المذكورة أعلاه. يمثل هذا الجانب المعرفة العميقة بقواعد اللغة على مستوياتها المختلفة:
- القواعد التركيبية (Syntactic Rules): كيفية بناء الجمل والتراكيب الصحيحة.
- القواعد الدلالية (Semantic Rules): فهم معاني الكلمات والجمل والعلاقات بينها.
- القواعد التداولية (Pragmatic Rules): فهم كيفية استخدام اللغة في سياقات مختلفة لتحقيق أهداف تواصلية معينة (أي المعنى الذي يقصده المتحدث من كلامه في سياق معين، وليس فقط المعنى الحرفي).
2. المكون الخطابي (Discourse Component)
يتعلق هذا المكون بمدى معرفة وامتلاك مختلف أشكال الخطاب والقدرة على تنظيمها بشكل فعّال. يتضمن القدرة على إنتاج وتأويل (فهم) النصوص الطويلة والمترابطة، سواء كانت محادثات، قصص، تقارير، أو خطب.
يشمل هذا المكون:
- القدرة على ترتيب الجمل والفقرات بطريقة منطقية ومترابطة.
- استخدام الروابط اللغوية المناسبة لضمان تماسك النص.
- فهم الأنواع المختلفة من النصوص (مثل السردي، الوصفي، الإقناعي) وكيفية بناء كل منها.
- القدرة على التكيف مع متطلبات الوضعية التواصلية التي ينتج فيها الخطاب أو يُؤول، أي فهم طبيعة الجمهور، الهدف من التواصل، والموقف.
3. المكون المرجعي (Referential Component)
هذا المكون يشير إلى معرفة الفرد بميادين التجربة ومواضيع العالم والعلاقات القائمة بينها. بمعنى آخر، هو المعرفة العامة حول العالم المحيط بنا والتي تساعدنا على فهم الرسائل التواصلية وإنتاجها.
يتضمن هذا المكون:
- المعرفة العامة (World Knowledge): المعلومات حول التاريخ، الجغرافيا، العلوم، الأحداث الجارية، والشخصيات العامة.
- المعرفة السياقية (Contextual Knowledge): فهم التفاصيل الخاصة بالموقف التواصلي، مثل الخلفية الثقافية للمتحدثين، العلاقة بينهم، والموضوع المحدد للمحادثة.
- الخبرة الشخصية: تجارب الفرد الحياتية التي تؤثر على فهمه وتفاعله مع العالم.
هذه المعرفة المرجعية ضرورية لفهم الإشارات والتلميحات، والتعبيرات التي تعتمد على معلومات مشتركة بين المتحدثين.
4. المكون السوسيوثقافي (Sociocultural Component)
يتعمق هذا المكون في الجانب الاجتماعي والثقافي للتواصل. إنه يعكس فهم الفرد وامتلاكه للقواعد الاجتماعية ومعايير التفاعل التي تحكم التبادل اللغوي في مجتمع معين.
يشمل هذا المكون بشكل واسع:
- معايير التفاعل بين الأفراد والمؤسسات: معرفة كيفية التصرف والتحدث في سياقات اجتماعية مختلفة (مثل التحيات، طلب الإذن، التعبير عن الشكر، تقديم الاعتذار).
- فهم الأدوار الاجتماعية: إدراك كيفية تأثير الأدوار الاجتماعية (مثل دور الطالب، المعلم، الوالد، الموظف) على أنماط التواصل.
- معرفة التاريخ الثقافي والحضاري: فهم العادات والتقاليد والقيم والمعتقدات التي تشكل جزءًا من الثقافة، وكيف تؤثر هذه العوامل على استخدام اللغة وتفسيرها.
- العلاقات بين المواضيع الاجتماعية: القدرة على فهم الحساسيات الثقافية والقضايا الاجتماعية التي قد تؤثر على التواصل. على سبيل المثال، معرفة الموضوعات التي تعتبر من المحرمات أو التي يجب تناولها بحذر في ثقافة معينة.
التكامل بين القدرات والمكونات:
يتضح أن نموذج "كانال" و"سوين" يقدم إطارًا متكاملًا يربط بين القدرات الفردية والمكونات الشاملة للكفاية الاتصالية. هذه القدرات والمكونات لا تعمل بمعزل عن بعضها البعض، بل تتفاعل وتتكامل لتمكين الفرد من التواصل بفعالية في مختلف المواقف. فالكفاءة في جانب واحد (كالقواعد النحوية) لا تكفي وحدها لتحقيق تواصل ناجح، بل يجب أن تتضافر مع الكفاءات الأخرى لإنتاج وتأويل الخطاب بشكل مناسب اجتماعيًا وثقافيًا، ومع القدرة على التغلب على أي صعوبات قد تواجه عملية التواصل.