إن مسرحية "موليير مصر وما يقاسيه" ليعقوب صنوع تثير قضية جوهرية أثارت حربا حقيقية في المسرح العربي منذ نشأته إلى الآن، ألا وهي قضية اللغة المسرحية، ذلك أن العنصر اللغوي اعتبر عاملا حاسما في تأصيل المسرح العربي، حيث عد اللجوء إلى العربية الفصيحة عنصرا أساسيا لتحقيق هذا المطلب.
بالمقابل، يلاحظ أن "عنصر الإضحاك الأول عند صنوع هو اللهجات".
لذا، نجد أن الأعمال الكوميدية التي كتبها تعتمد اللهجة البربرية أو الرومية أو السورية، أو لهجة الأجانب الذي يتكلمون بعربية لاحنة أو مكسرة.
وهو يعتبر هذا المكون اللهجي أساسيا في هذا النوع من المسرح.
ولعل مبرره في ذلك هو النموذج المولييري الذي، يحتذيه، والذي جعله في مأزق حقيقي يدفع إلى التساؤل:
- هل كان المسرح العربي قد اتخذ انطلاقة صحيحة باستناده على موليير؟
- ألا يمكن القول إن مبررات صنوع تكشف عن مفارقة في الخطاب التأصيلي العربي بين ترسيخ مكونات النوع الدرامي والاهتمام باللغة الأم؟
مما لاشك فيه أن هذه الإشكالية قد تحولت إلى قضية مزمنة في المسرح العربي، وليس هذا مجال تفصيل الحديث فيها.
لكن لابد من الإشارة إلى أنها تكشف هنا عن مظهر ثقافي بالغ الأهمية ينضاف إلى المظهر السياسي لمسألة التأصيل، جعلا مسرحية صنوع مرآة لذات مؤلفها ولزمنه في آن واحد.
ولعل هذه الأبعاد نفسها هي التي جعلت وظيفة المسرح تستأثر باهتمام صنوع في هذه السيرة الممسرحة، لاسيما وأنها ارتبطت بقضية جوهرية ذات بعد حضاري هي: ما الجدوى من فن دخيل بالنسبة للمجتمع العربي خلال القرن التاسع عشر؟.
فجمس - لسان حال صنوع في المسرحية - يؤكد أن المهام الأساسية للمسرح هي "التمدن والتقدم والتهذيب".
وإذا تأملنا هذه الكلمات، سنلاحظ أنها تشكل جزءا من قاموس النهضة، مما يعني أن صنوع كان يريد للمسرح أن ينخرط في التحدي الأكبر والأشمل للأمة العربية آنئذ، أي تحدي الانتماء للعصور الحديثة.
يستخلص من هذا أن الميتامسرح التأصيلي شكل مظهرا أساسيا من مظاهر الخطاب النهضوي العربي، وكونه كذلك يفسر تأرجح بنياته الموضوعاتية بين قضايا مسرحية ذاتية وقضايا ثقافية شاملة.
ولكي يقوم المسرح بدوره في إرساء دعائم النهضة، لابد له أن يقيم علاقة قوية مع الجمهور.
وقد سبقت الإشارة إلى أن عنصر الإضحاك عد من أهم جسور بناء هذه العلاقة في نظر صنوع، ولولاه لما تمكنت تجربته من الإرساء والتغلغل في وجدان الجمهور.
لذا، فهو يتخذ من مسرحيته مناسبة للإشادة بدور الجمهور العربي في ترسيخ تجربته، إلى حد أن الممثلين المتمردين قبلوا اللعب في تلك الأمسية من أجل الناس الذين يحبونهم ويدعمونهم: "(جميع اللعيبين واللعيبات ما عدا حبيب يقولوا:)
نلعب الليله على شان خاطر عيون موسيو جمس ابونا، وافندينا والذوات والاهالي اللي بيحبونا.
لان لو لم يكن اشمال انظارهم علينا، وحضورهم كل ليله الينا، ما كانشي التياترو العربي صح وانشهر،وخديوينا بنجاحه افتخر".
وإذا كان يعقوب صنوع قد خاض في قضايا شمولية كبرى عبر سيرته الذاتية بفكر المثقف النهضوي الذي يؤمن بدور الفن في التغيير الحضاري، فإنه عالج العديد من القضايا بهاجس رجل المهنة الذي يعتقد أيضا أن المسرح لا يمكن أن يؤدي رسالته مالم تتوفر له بنية تحتية قوية، وما لم يتم الاهتمام بقطب رئيسي فيه هو الممثل. فمعاناة هذا الأخير جزء من معاناة الكاتب ومؤسس المسرح، وتترجمها المسرحية على لسان أحد الممثلين:
"متري: إن كان هو حيران احنا كمان تعبانين، ياما أشقى عيشة اللعيبين. دول يا اخواتي غلبانين جيوبهم دائما فارغين، ومع دا كله محسودين. إذا مشيو في الطريق، مساكين انفاسهم تضيق، من الهوان والتهزيق، والتنكيت عليهم والتقريق. وإذا واحد منهم أراد أن يظهر محبته والوداد، لمن يعزه ويريده الفؤاد، يقولوا له احنا في التياترو يا واد".
إن متري هنا يعكس صورة الممثل ورجل المسرح بشكل عام داخل مجتمع لم يتعود على هذه المهنة الجديدة.
لم يكن سهلا إقناع الرأي العام بجدوى ممارسة فنية وتهذيبية اسمها "المسرح" مادامت الرؤية الأخلاقية مستحكمة فيه بشكل يدفعه إلى ردود فعل تهكمية إزاء الممثلين في حياتهم اليومية.
يستفاد من هذا، إذن، أن تأصيل المسرح العربي واجه حربا مزدوجة ضد واجهتين: واجهة النخبة الثقافية وامتداداتها السياسية، ثم واجهة الرأي العام: الأولى كانت تدرك خطورة المسرح فتحاربه، والثانية لم تكن تفهم دوره التنويري فجعلها منطلقها الأخلاقي الخاطئ تضطهد رجاله.
التسميات
بنيات ميتامسرحية