النص ككيان أحادي المعنى في نظر رولان بارت: تحليل معمق لمفهوم "الدليل المنغلق" وتأثيره على عمليات التحقيق والتأويل الفيلولوجي

مفهوم النص عند رولان بارت:

في دراسته المعنونة "(النّصّ ونظريته)"، يقدم المفكر الفرنسي رولان بارت تعريفًا جوهريًا للنص، معتبرًا إياه "السطح الظاهري لنسيج الكلمات المستعملة والموظفة فيه بشكل يفرض معنى ثابتاً وواحداً". هذا التعريف، على بساطته الظاهرية، يحمل في طياته دلالات عميقة تستدعي التوسع والتحليل لفهم أبعاد نظرية بارت حول النص.

النص ككيان مادي ومؤسسي:

يتجلى هذا السطح الظاهري للنص من خلال عملية الكتابة، وهي العملية التي تحوله إلى كيان ملموس، قابل للإدراك بصريًا. فبمجرد أن يُخط النص على الورق أو يظهر على شاشة، يصبح موضوعًا مؤسسيًا، أي أنه يدخل في نطاق مؤسسات مجتمعية وتاريخية محددة. لا يقتصر هذا الاتصال على المجال الأدبي فحسب، بل يمتد ليشمل مجالات أخرى مثل القانون والدين. فالنصوص القانونية والدينية، على سبيل المثال، ليست مجرد تراكيب لغوية، بل هي كيانات مُؤسسَة تُشكل أساسًا للممارسات والتنظيمات الاجتماعية. هذا الارتباط التاريخي والمؤسسي يمنح النص سلطة وقوة تأثير في تشكيل الواقع.

النص كدليل أحادي المعنى:

وفقًا لهذا التحديد، يرى بارت أن النص يتمفصل كـدليل (Signe) ينقسم إلى مكونين أساسيين: الدال (Signifier) والمدلول (Signified). الدال هو الصورة الصوتية أو المرئية للكلمة أو الجملة، بينما المدلول هو المفهوم أو المعنى الذي تحيل إليه تلك الكلمة أو الجملة. ومع ذلك، يؤكد بارت أن هذا "الدليل" هو "وحدة منغلقة على ذاتها". يعني هذا الانغلاق أن العلاقة بين الدال والمدلول داخل النص تكون علاقة محددة ومحصورة، مما يؤدي إلى وقف المعنى ومنعه من أن يكون متعددًا. بعبارة أخرى، يميل هذا التصور إلى فرض معنى واحد وثابت للنص، مستبعدًا أي احتمالات لتأويلات مختلفة أو معانٍ متعددة.

عمليات التحقيق والتأويل: قيود على تعدد المعنى

تتضح هذه الأحادية في المعنى من خلال العمليتين الأساسيتين اللتين يخضع لهما النص: التحقيق (Restitution) والتأويل (Interpretation). يرتبط كلتا العمليتين ارتباطًا وثيقًا بتصور محدد ومقيد للنص، وهو التصور الذي يهدف إلى ترسيخ معنى واحد.
  • التحقيق (Restitution): هذه العملية غالبًا ما ترتبط بمجال الفيلولوجيا، وهي دراسة اللغة والنصوص الأدبية القديمة. تسعى الفيلولوجيا إلى "تحقيق النص وتدقيقه للحصول على الدال الموحد". بمعنى آخر، يهدف الفيلولوجي إلى استعادة النص في شكله الأصلي والأكثر دقة، مع التركيز على الجانب الشكلي واللغوي، وذلك لضمان أن يكون "الدال" (الكلمات والجمل) واحدًا وواضحًا، لا يحتمل أي غموض أو اختلاف. الهدف هنا هو التثبت من النص كما هو، دون تشتت أو تأويل.
  • التأويل (Interpretation): على الرغم من أن التأويل قد يوحي بوجود تعددية في المعنى، إلا أن بارت يرى أنه في هذا السياق، "يحاول حصر معنى المدلول بضبط المعنى الأحادي". بمعنى أن عملية التأويل، ضمن هذا التصور المقيد للنص، لا تهدف إلى استكشاف معانٍ متعددة أو متناقضة، بل تسعى إلى تثبيت معنى وحيد ومحدد للمدلول (المفهوم). فالمؤول هنا لا يبحث عن احتمالات، بل يسعى إلى إيجاد "المعنى الصحيح" أو "المعنى الوحيد" الذي كان يقصده المؤلف أو الذي يُفترض أن النص يحمله.

خلاصة:

في جوهر هذا التعريف، يقدم رولان بارت رؤية للنص ككيان ثابت، محكم الإغلاق من حيث المعنى، حيث تفرض بنيته اللغوية والمؤسسية معنى أحاديًا على المتلقي، وتعمل آليات التحقيق والتأويل على تعزيز هذا الانغلاق ومنع أي تعدّدية دلالية. هذه النظرة تمثل نقطة انطلاق هامة في فكر بارت، قبل أن يتطور مفهومه للنص ليصبح أكثر انفتاحًا وتعددية، كما هو الحال في مفهومه لـ"النص المفتوح" و"النص المنسوج" الذي يمنح القارئ دورًا فعالًا في بناء المعنى.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال