التكرار بين المفهوم القديم والتشاكل الحديث: رؤية بلاغية جديدة لتعدد الدلالات في النص الفني والشعري

التكرار والتشاكل في النص الفني: رؤى بلاغية حديثة تتجاوز المفهوم التقليدي

لطالما كان التكرار عنصراً مهماً في التحليل البلاغي والنقدي للنصوص، وخاصة الشعرية منها. لكن فهم هذا العنصر قد تطور بشكل كبير من التفسيرات القديمة إلى الرؤى الحديثة. فبينما اعتبر جمهور البلاغيين القدامى (مثل ابن حجة) أن إعادة الكلمة الواحدة تشكل تكراراً لنفس اللفظ والمعنى بلا إضافة، فإن الدراسات الشعرية الحديثة تتبنى منظوراً مختلفاً تماماً، مؤكدة أن التكرار الكلي للمعنى في نص فني أمر مستحيل. هذه النظرة الحديثة تنبع من قناعة بأن السياق والتفاعل مع العناصر الأخرى في النص يمنح أي تكرار بُعداً دلالياً جديداً، حتى وإن بدا اللفظ متطابقاً.

التشاكل: مفهوم استراتيجي لتعدد المعاني

في ضوء هذا التحول في الفهم، يصبح اختيار مفهوم "التشاكل" (Isomorphism) أمراً استراتيجياً لإعادة قراءة وتقدير هذه الموازنات والتكرارات في النصوص. فالقيمة الأساسية للتشاكل تكمن في قدرته على ربط التكرار بالمقصدية والسياق، وهو ما يضمن التعدد المعنوي لأي خطاب.

التكرار البلاغي القديم مقابل التشاكل الحديث:

  • التكرار القديم (اللفظ والمعنى): يرى البلاغيون القدامى أن تكرار كلمة مثل "الليل" في قصيدة هو تكرار لنفس المفهوم الدلالي للّيل. بالنسبة لهم، إذا تكررت الكلمة، تكرر المعنى، وقد يُنظر إليه أحياناً كحشو أو تقوية بسيطة.
  • التشاكل الحديث (التكرار والمقصدية والسياق): على النقيض، ينظر مفهوم التشاكل إلى التكرار ليس كعملية ميكانيكية لنسخ اللفظ والمعنى، بل كعملية تُضاف فيها طبقات جديدة من الدلالة والمعنى كلما تكرر اللفظ في سياق مختلف أو بقصدية معينة. فالكلمة نفسها قد تحمل إيحاءات وتداعيات مختلفة في كل ظهور لها ضمن النص. السياق المحيط بالكلمة (قبلها وبعدها)، والمقصدية الكامنة وراء اختيار الشاعر لتكرارها، يضفي عليها أبعاداً جديدة. هذا يعني أن كل تكرار هو في الواقع "تجديد" دلالي، وليس مجرد إعادة.

جهة الأوضاع والوحدة المعجمية الواحدة:

إضافة إلى ذلك، يسمح لنا مفهوم التشاكل بتبني فكرة "جهة الأوضاع" ضمن "التشاكل الجهي" الذي ينسحب على الوحدة المعجمية الواحدة. هذا يعني أن الكلمة الواحدة، على الرغم من أنها ذات جذر معجمي واحد، يمكن أن تظهر في "جهات" أو "سياقات وضعية" مختلفة، وتكتسب في كل منها دلالة أو نبرة أو وظيفة تتجاوز معناها الأساسي.

مثال توضيحي: فعل "يلعب":

لنأخذ على سبيل المثال فعل "يلعب" في الجملة: "كان سعيد يلعب في الشارع."
  • المنظور البلاغي العربي القديم: قد يرى أن "يلعب" لا يؤشر على أية مُجانسة دلالية بالمعنى البلاغي القديم. بمعنى أنه فعل بسيط يدل على اللعب ولا يحمل تعقيداً بلاغياً في ذاته لاختلافه عن أساليب التكرار المعروفة لديهم كالجناس أو التكرار اللفظي الظاهر.
  • منظور التشاكل الحديث: في منظور نموذج التشاكل، يتوفر هذا الفعل على تكرار نشاط اللعب في فترة زمنية معينة. هنا، "يلعب" لا يُنظر إليه كفعل يحدث مرة واحدة، بل كنشاط مستمر ومتكرر خلال فترة زمنية محددة (الشارع، فترة زمنية معينة). هذا التكرار الزمني والوضعي (في الشارع) يضيف طبقة دلالية جديدة: إن سعيد لم يلعب لمرة واحدة فقط، بل كان يمارس نشاط اللعب بشكل متواصل. هذا التكرار للحالة (النشاط) يمثل تشاكلاً دلالياً، حيث يتشابه الفعل في كل لحظة من لحظات ممارسته لنفس النشاط. يمكن أن يُفهم هذا التكرار في نشاط اللعب على أنه يحدد طبيعة فترة زمنية معينة في حياة سعيد، أو مكان معين، مما يمنح الفعل بعداً أعمق من مجرد دلالته المعجمية الأصلية.

خاتمة:

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن الدراسات البلاغية الحديثة، من خلال مفهوم التشاكل، قد قدمت نقلة نوعية في فهم التكرار في النصوص الفنية. لقد تجاوزت النظرة السطحية التي تربط التكرار بتطابق اللفظ والمعنى، لتكشف عن غنى دلالي خفي ينبض في كل كلمة تُعاد صياغتها أو تُستخدم في سياق مختلف. هذا المفهوم يفتح آفاقاً جديدة لتحليل النصوص، مؤكداً أن الفن يكمن في القدرة على خلق دلالات متعددة من خلال عناصر تبدو متكررة، ولكنها في جوهرها تحمل تجديداً وتعميقاً للمعنى.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال