أجرة الرضاع: حق الأم وواجب المجتمع
تعتبر الرضاعة الطبيعية حقًا أصيلًا للطفل في الإسلام، فهي الغذاء الأول الذي يمنحه الصحة والنمو السليم، كما أنها تعزز الرابطة القوية بين الأم ووليدها. وقد أولت الشريعة الإسلامية اهتمامًا بالغًا بهذه المرحلة الحيوية في حياة الإنسان، ونظمت أحكامها المتعلقة بها بما يكفل مصلحة الطفل والأم على حد سواء. ومن ضمن هذه الأحكام مسألة "أجرة الرضاع"، والتي تثير تساؤلات حول استحقاق الأم للأجر مقابل إرضاع ولدها، خاصة في حالات معينة. هذا الموضوع سيتناول بالتفصيل مفهوم أجرة الرضاع في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، مع استعراض الأدلة الشرعية والآراء الفقهية المختلفة، بالإضافة إلى التطرق إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة لهذه المسألة.
أولًا: مفهوم أجرة الرضاع في الشريعة الإسلامية:
أجرة الرضاع هي المقابل المالي أو العيني الذي تحصل عليه المرضع مقابل قيامها بإرضاع طفل غيرها أو طفلها في حالات معينة. وقد وردت نصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية تدل على جواز أخذ الأجرة على الرضاع، بل واستحباب ذلك في بعض الحالات.
الأدلة من القرآن الكريم:
قوله تعالى في سورة الطلاق: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق: 6). هذه الآية صريحة في الأمر بإيتاء المرضعات أجورهن إذا أرضعن الأولاد بعد الطلاق، مما يدل على مشروعية أخذ الأجرة على الرضاع.
الأدلة من السنة النبوية:
وردت أحاديث أخرى تدل على استئجار المرضعات لإرضاع الأطفال، مما يشير إلى جواز أخذ الأجرة على ذلك.
آراء الفقهاء في أجرة الرضاع:
- الحنفية: يرون أن الأم لا تستحق الأجرة على إرضاع ولدها في حال قيام الزوجية، لأن الإرضاع من واجباتها تجاه ولدها. أما إذا طلقها الزوج أو مات، فتستحق الأجرة على إرضاع ولدها منه، لأن الرابطة الزوجية قد انقطعت.
- المالكية: يرون أن الأم تستحق الأجرة على إرضاع ولدها مطلقًا، سواء كانت في عصمة الزوج أو مطلقة أو أرملة، لأن الإرضاع عمل تقوم به لمصلحة الولد، ويستحق عليه الأجر.
- الشافعية: يفرقون بين حالتين: إذا كانت الأم معسرة ولا تجد ما تنفق على نفسها وعلى ولدها إلا بأجرة الرضاع، فلها أن تأخذ الأجرة. أما إذا كانت موسرة، فلا تستحق الأجرة على إرضاع ولدها في فترة الزوجية. أما بعد الطلاق أو الوفاة، فلها الأجرة.
- الحنابلة: يرون أن الأم لا تستحق الأجرة على إرضاع ولدها في حال قيام الزوجية، لأنه من تمام العشرة وحسن الصحبة. أما بعد الطلاق البائن، فتستحق الأجرة على إرضاع ولدها إذا لم يوجد مرضعة أخرى متبرعة أو بأجرة المثل.
ثانيًا: أجرة الرضاع في القوانين الوضعية:
تختلف القوانين الوضعية في تناولها لمسألة أجرة الرضاع، ولكنها تتفق عمومًا على أن نفقة الولد تشمل طعامه وكسوته ومسكنه وعلاجه وتعليمه، وقد تشمل أجرة الرضاع ضمن هذه النفقة في حالات معينة، خاصة بعد انفصال الوالدين.
قوانين الأحوال الشخصية العربية:
- في العديد من قوانين الأحوال الشخصية العربية، يُلزم الأب بنفقة أولاده حتى يبلغوا سن الرشد أو حتى تتزوج البنت. وتشمل هذه النفقة أجرة الرضاع إذا كانت الأم هي المرضع ولم تتنازل عن حقها في الأجرة، خاصة بعد الطلاق أو الوفاة.
- بعض القوانين تنص صراحة على حق الأم المطلقة أو الأرملة في الحصول على أجرة رضاع من الأب أو من تركة الأب في حال وفاته، وذلك مقابل إرضاعها للولد خلال فترة الحضانة.
- تختلف تقديرات أجرة الرضاع من قانون لآخر، وقد تعتمد على العرف السائد في المجتمع أو على تقدير القاضي بناءً على الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
القوانين في الدول الغربية:
- في العديد من الدول الغربية، تُعتبر نفقة الطفل مسؤولية مشتركة بين الوالدين بعد الانفصال. وقد تتضمن هذه النفقة تكاليف رعاية الطفل في سنواته الأولى، والتي قد تشمل تعويضًا للأم إذا كانت هي القائمة بالرضاعة بشكل أساسي، خاصة إذا كانت مضطرة لترك عملها أو تقليل ساعاته لرعاية الطفل.
- قد لا يوجد نص قانوني صريح تحت مسمى "أجرة الرضاع"، ولكن المحاكم قد تأخذ في الاعتبار الجهد الذي تبذله الأم في الرضاعة عند تحديد مبلغ النفقة المستحقة للطفل.
ثالثًا: الجوانب الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة لأجرة الرضاع:
في العصر الحديث، تكتسب مسألة أجرة الرضاع أبعادًا اجتماعية واقتصادية جديدة نظرًا لتغير أنماط الحياة وخروج المرأة للعمل وتأخر سن الزواج والإنجاب.
- حق الأم العاملة: قد تجد الأم العاملة صعوبة في التوفيق بين مسؤولياتها الوظيفية وحق طفلها في الرضاعة الطبيعية. وفي هذه الحالة، قد تحتاج إلى الاستعانة بمرضعة أخرى بأجر، أو قد تضطر إلى ترك عملها أو تقليص ساعاته، مما يؤثر على دخلها. هنا تبرز أهمية تقدير جهد الأم المرضعة وتعويضها ماديًا بشكل عادل.
- دور الدولة والمؤسسات: قد تلعب الدولة والمؤسسات المختلفة دورًا في دعم الأمهات المرضعات من خلال توفير إجازات أمومة مدفوعة الأجر، أو إنشاء دور حضانة في أماكن العمل، أو تقديم دعم مالي للأمهات اللاتي يخترن الرضاعة الطبيعية لفترة أطول.
- الرضاعة كعمل غير مدفوع الأجر: غالبًا ما يُنظر إلى الرضاعة على أنها عمل طبيعي تقوم به الأم بدافع الأمومة، ولا يُنظر إليه كعمل يستحق الأجر. ولكن، يجب الاعتراف بالجهد البدني والعاطفي الذي تبذله الأم في الرضاعة، خاصة في الأشهر الأولى من حياة الطفل.
- الاستغلال الاقتصادي: في بعض الحالات، قد تتعرض الأمهات المرضعات للاستغلال الاقتصادي، خاصة إذا كن في وضع اقتصادي ضعيف ويضطررن إلى إرضاع أطفال آخرين بأجور زهيدة.
رابعًا: مناقشة بعض الحالات الخاصة:
- إرضاع الزوجة لزوجها: لا تستحق الزوجة أجرة على إرضاع ولدها من زوجها في فترة الزوجية، لأن ذلك من واجباتها وحقوق الزوج عليها.
- إرضاع المتبرعة: إذا تبرعت امرأة بإرضاع طفل، فلا تستحق أجرة على ذلك، ويكون ذلك من باب الإحسان والبر.
- الاستعانة ببنك الحليب: في بعض الحالات التي تتعذر فيها الرضاعة الطبيعية من الأم أو من مرضعة أخرى، قد يتم اللجوء إلى بنوك الحليب. وتخضع هذه العملية لضوابط شرعية وقانونية تضمن سلامة الحليب وحقوق المتبرعات والمستفيدين.
- التبني: في حالات التبني، قد تحتاج الأم المتبنية إلى الاستعانة بمرضعة للطفل، وتستحق المرضعة في هذه الحالة الأجرة المتفق عليها.
خلاصة:
تعتبر مسألة أجرة الرضاع من المسائل المهمة التي تجسد اهتمام الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية بحقوق الطفل والأم على حد سواء. ففي حين تؤكد الشريعة على حق الطفل في الرضاعة الطبيعية، فإنها تراعي أيضًا جهد الأم المرضعة وتجيز لها الحصول على الأجر في حالات معينة، خاصة بعد انفصالها عن زوجها. وفي العصر الحديث، تتطلب هذه المسألة نظرة متجددة تأخذ في الاعتبار التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وتدعو إلى تقدير دور الأم المرضعة وتوفير الدعم اللازم لها لتمكينها من القيام بواجبها تجاه طفلها على أكمل وجه، دون إجحاف بحقوقها أو حقوق طفلها. إن تحقيق التوازن بين مصلحة الطفل وحقوق الأم هو جوهر التعامل العادل مع مسألة أجرة الرضاع في مختلف السياقات.
التسميات
رضاعة وحضانة