الهوية هي العنصر الدفين الذي يميز إنساناً عن آخر ومجتمعاً عن آخر. لذا وقف فرانز بوس، الأنثروبولوجي الأميركي، بصلابة مع القول بأن الفروق بين البشر هي ثقافية وليست بيولوجية. فالإنسان كان في البدء إنساناً بيولوجياً واحداً، لكنه تمايز بعد ذلك عن غيره في الهوية التي اكتسبها، طبقاً لما أكد عليه كارل مانهايم من وجود عوامل عديدة تعمل على تحديد مسار المجتمعات وتشكيل أنساقها وبرامجها ونظمها.
الهوية مسعى وسطي ينطلق للإفادة من كل تجربة إنسانية ناجحة ليعيد صياغتها ثم إدراجها في كينونته الخاصة، من دون أن يكون ذلك التلاقح والتبادل مع الآخر على حساب السمات والرموز الأساسية لهوية الأنا المميزة. ما جعل ليفي شتراوس يؤكد بالقول «إن كل ثقافة تتطور بفضل تبادلاتها مع ثقافات أخرى، لكن يجب أن تصنع كل منها مقاومة ما، وإلا فسرعان ما ستفقد كل شيء خاص بها يمكن مبادلته».
ثم يكثف شتراوس فكرته بأن «لكل من غياب الاتصال والإفراط فيه خطره». ويؤكد علماء الاجتماع والانثربولوجيا المرة تلو الأخرى حرصهم على حماية الهوية والخصوصية، إذ إن ذلك يلهم عندهم وعند علماء سوسيولوجيا الثقافة خصوصاً، والعديد من مثقفي العالم تطلعاً، ومن موقف مثالي، إلى بناء مجتمع عالمي جديد أساسه الاختلاف والتعددية الثقافية، في ظل توحّد تقني واتصالي.
والتنوع الثقافي في أدبيات الإسلام سنة كونية لا يمكن إزالتها من الوجود أو طمسها، وهو مظهر وسمة إيجابية في الحياة البشرية، يؤكد ذلك ما ورد في القرآن الكريم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
صراع الهوية ليس حكراً على العالم الإسلامي المحافظ، أو على أوروبا الكلاسيكية، بل إن أميركا التي يتضاءل فيها التاريخ وتطغى فيها الجغرافيا التي هي نبع العولمة وحاضنته، تتحدث عن أزمة هوية عندها أيضاً، فصموئيل هنتنغتون يقر بأن «مشكلة هوية أميركا فريدة، ولكن أميركا ليست فريدة في أن لديها مشكلة هوية. النقاشات حول الهوية الوطنية سمة عامة لزمننا، ففي كل مكان تقريباً تساءل الناس وأمعنوا النظر وأعادوا تعريف ما هو مشترك لديهم، وما يميزهم عن الشعوب الأخرى: من نحن؟ وإلى أين ننتمي؟».
ويدرك هنتنغتون أن أزمات الهوية تتنوع بين البلدان المختلفة، في الشكل والجوهر والشدة، وأن لكل أزمة هوية أسبابها الفريدة. «ومع هذا فإن ظهورها المتزامن في الولايات المتحدة وبلدان أخرى كثيرة يشير إلى أن ثمة عوامل مشتركة لا بد من أنها تعمل في هذا المضمار أيضاً».
لكن هنتنغتون وهو يبحث في العوامل المشتركة المستفزة للهويات، يشير على استحياء وحنان إلى فخاخ العولمة من دون أن يسميها هكذا، بل بوصفها «قادت الناس إلى إعادة التفكير بهوياتهم وإعادة تعريفها بلغة مشتركة أكثر حميمية ودقة».
وقطعاً فأميركا لا تخسر شيئاً ذا بال في هويتها الثقافية بسبب العولمة، مقارنة بالنوستالجيا التي تصيب مجموعات جغرافية آسيوية وعربية وأفريقية وأوروبية، ذات هويات كلاسيكية عريقة وثمينة يصعب التفريط بها من أجل المكاسب الاقتصادية للعولمة، التي هي المنفعة الكبرى للمجتمع الأمريكي ذي الهوية الصغرى.
يشير الباحث الروسي ياكوفتس إلى أن مساعي التوحيد العالمي تتدرج ضمن ثلاثة مساقات: التوحيد التكنولوجي وهو فرض الأولوية في الأسواق العالمية للأجيال الجديدة من التكنولوجيات والمقاييس الدولية المتناسبة معها. والتوحد الجيوسياسي المعبر عنه في منهج هو في جوهره نحو العالم أحادي القطب، والتوحد الثقافي والاجتماعي، وهو الأخطر حدياً بالنسبة إلى مصائر الحضارات، إذ هو تهديد الحفاظ على التنوع النمطي للثقافات.
وإذا تحقق بالفعل انحسار التنوع النمطي للثقافات، أصبح المشهد الثقافي الكوني مأزوماً بالخواء. وأشار ريجيس دوبريه إلى أن «الخواء الثقافي ملازم لاقتصاد السوق»، وكذلك القمع الثقافي، فاقتصاد السوق الذي يجرى تبريره في إطار العولمة يساهم في قمع ثقافي لثلاثة أرباع البشرية، أو لما يسميه مؤلفا كتاب (فخ العولمة): «المواطنون الفائضون عن الحاجة»!
إن ثقافة السوق هي تأصيل تام وذروة لروح الرأسمالية في صورتها المطلقة التي نزاولها الآن في أرجاء الكون كافة، بعد إزاحة الاشتراكية كنموذج اقتصادي مغاير. وهي تتخذ من مفاهيم وأخلاق البروتستانتية مستنداً لها في تبرير هذه الفعالية الوظيفية اللامنطقية، تلك العلاقة التي قام بتشريحها ابستمولوجياً ماكس فيبر في كتابه الشهير (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية).
فهو يتحدث عن تسويغ المذاهب الطهورية والتقوية للعمل الدؤوب المستشرف رضا الرب بلا انقطاع. ويوجز فيبر ما أحدثته البروتستانتية من تأجيج للرأسمالية وتبرير لها بأن «النسكية البروتستانتية تشرّع لاستغلال هذه الارادة الطيبة في العمل، وتفسر في الوقت ذاته نشاط المقاول الهادف للكسب، معتبرة إياه (إلهاماً ربانياً)!» ثم يعلق فيبر على هذا التحالف التسويغي بين البروتستانتية والرأسمالية بالقول: «لقد جردت النسكية العمل على كل حال من هذه اللذة الدنيوية، أما اليوم فقد دمرتها الرأسمالية تدميراً نهائياً».
هذا النهم للعمل الدؤوب جعل فئة جديدة من الرجال والنساء «المعولمين» يرون الدين والثقافة والانتماء العرقي عناصر هامشية، فهويتهم هي قبل كل شيء في انتمائهم المهني، وبقدرتهم الفائقة على تحولهم إلى مستهلكين ومستهلكين فقط.
وإذا كان فرانسيس فوكوياما وجد في النيوليبرالية الأميركية نهاية التاريخ، فإن سيرج حليمي ـ في مقالة له في «لوموند ديبلوماتيك» ـ يرى أن النيوليبرالية الأميركية «نهاية الأخبار». فقد لاحظ حليمي أنه وباستمرار تتم التضحية بالأخبار الجادة لحساب منحى محدد يهدف إلى زيادة عدد المستهلكين.
وهو ما يؤكد مزاحم وسائل الإعلام في خدمة أغراض العولمة وثقافة السوق التي لا ترى في الإنسان سوى مصدر للربح، تعزيزاً للفكرة القائلة بأن واجب كل فرد هو زيادة رأسماله، باعتبار ذلك غاية بذاته، أو كما يصفها ماكس فيبر تحول التعبير عن قمة السعادة إلى أنه: كسب المال... المزيد من المال دائماً.
وذلك مما يفطن إليه فيبر، في مطلع القرن الماضي، بقوله: «عندما يُطلق لقوانين السوق العنان فإنها لن تعترف إلا بقيمة الأشياء، لا مكان لقيمة الإنسان، لا مكان للأخوة وصلة الرحم، لا مكان للبراءة والطفولة، بل لا مكان للفطرة الإنسانية في المجتمع». أي لا مكان للإنسان في الإنسان وفي الكون.
إذاً... فالعولمة مُبهجة بوصفها مسهلة للتواصل البشري، ولكنها مخيفة بوصفها محبطة للتنوع الثقافي الذي ننشد الحفاظ عليه.
هل يمكن العلاقات الدولية أن تتنامى في مناخ يسوده القلق على الهويات المهددة؟
وهل يمكن المنظمات الدولية، واليونيسكو تحديداً، أن تساهم في تشييد علاقات السلام بين الشعوب، من دون ضمانة بحفظ التنوع الثقافي وتعزيزه وإثرائه... إيماناً بأن «التعددية» هي أجدى سبل «الوحدة» البشرية؟
التسميات
موجة ثالثة