إن الاقتصاد العالي الرمزية لا يقضي على تصوراتنا المتآكلة القديمة العهد، في البطالة فقط، بل ويقضي أيضاً على طريقتنا في النظر إلى العمل نفسه. وعلينا، إذا أردنا فهم الواقع والصراعات من أجل السلطة، التي تنشأ عنه، أن نستنعين بمفردات جديدة.
وهكذا فإن تقسيم الاقتصاد، إلى قطاعات يسمّونها مثلاً باسم "القطاع الزراعي" و"الصناعي" و"الخدمات، يزيد الموضوع غموضاً، بدلاً من أن يُوضّحهُ.
ذلك أن سرعة التغيرات الحالية تقضي على هذه الصور من التمييز التي كانت، من قبل، شديدة الوضوح، وبدلاً من أن تتعلق بالتصنيفات القديمة، يكون من الأفضل أن ننظر إلى ماهو تحت الأسماء الشكلية، وأن نتساءل عما يجب أن يفعله المستخدمون في هذا المعمل أو ذاك، لكي يُنشئوا مايسمّى بالقيمة المضافة، ومتى طرحنا هذا السؤال، سرعان مانكتشف أن العمل في القطاعات الثلاثة، يقوم أكثر فأكثر على عمليات رمزية، في "عمل عقلي".
أما اليوم، فإن مربي الماشية يحسبون نسب الكسب gain بالاستعانة بالحواسيب، ويقوم عمال "صناعة الحديد" بمراقبة لوحات الكترونية؛ ويُشغّل رجال المصارف المختصون بالتوظيف، كلَّ ميكروياتهم" السهلة الحمل، لكي يعملوا أو يتدخلوا في الأسواق المالية.
وليس بالعظيم الأهمية إذا كان رجال الاقتصاد يفضلون الإشارة إلى هذه النشاطات، بقولهم: "زراعية"، أو "صناعية" أو "من قطاع الخدمات".
وهكذا فإن المقولات المهنية نفسها تتخلخل. وعندما نقول عن شخص ما بأنه سائق مكنات أو مندوب تجاري، فهذا يعني تخيّل أشياء أكثر من تلك التي ينكشف عنها، ومن الأجدى والأنفع اليوم، أن نجمع العاملين تبعاً للعمليات الرمزية، أو العمل العقلي الذي يقومون به -من غير التوقف لمعرفة أي فئة يصنفون فيها وما إذا كانوا يعملون في متجر، أو في "نافلة" أو "معمل" أو "مستشفى" أو "ملعب".
ونحن واجدون، فيما يمكن أن نسمِّيه "العمل العقلي"، الباحث العلمي، والمحلل المالي، والمبرمج الإعلامي، كما نجد المستخدم الوثائقي العادي.
وقد يتساءل بعضهم، لم نحشرُ في نفس المجموعة، العالم والمستخدم في تجميع الوثائق؟!
والجواب هو، فيما إذا كانت وظائفهما مختلفة فعلاً، أو أنهما يعملان كلا الاثنين في مستويات مختلفة جداً من التجريد. أو أنهما هما الاثنين- ومعهما ملايين الناس- لا يفعلون شيئاً آخر غير نقل الإعلام وإنشاء المزيد منه. إن عملهما رمزي كله.
وحول وسط الطيف، سنجد مساحة كبيرة من"الاستخدامات،"المختلطة" منها أعمال تتطلب شيئاً من العمل المادي، وكذلك بعض التعامل مع الإعلام. فالسائق- الموزع في الـ Federal Express أو في الـ United Parcel service، يتعامل مع صناديق وحُزَم، ويسوق سيارة خدمة Scrvice؛ أما اليوم، فإنه يستخدم حاسوباً ordinateur موضوعاً في غرفته في المصانع العالية التكنولوجيا- رجل إعلامي عالي المستوى. وقل مثل ذلك في المستقبل في الفندق، والممرضة، وكثيرين آخرين. وهؤلاء أفراد لهم علاقاتٌ وصلاتٌ مع الجمهور، ولكنهم يقضون قسماً كبيراً من وقتهم، أيضاً، في إنتاج الإعلام وتقديمه.
وإذا كنا في وكالات فورد، وجدنا أن الميكانيكين كانوا يظلون بلا ريب، ممتليء الأيدي بالشحم؛ ولكنهم، عما قريب، سيستخدمون نظاماً إعلامياً informatique (أو معلوماتياً)، أنشأهHeulett Packard ، سيساعدهم على ملاحظة الأعطال، ويقدم لهم باستمرار مئة خريطة تكنيكية، ومعطيات مختزنة في الذاكرات الإلكترونية. ويطلب منهم هذا النظام معلومات تكميلية حول السيارة التي يصلحونها؛ ويساعدهم على البحث، حدسياً، عما ينبغي لهم أو ما يحتاجون إليه في كتل من الأدوات؛ وهو ينشئ لهم علاقات استنتاجية، ويقود الناس، خلال المراحل المتتالية للعمل. تُرى أيكون هؤلاء عندما يتحادثون مع النظام، ميكانيكيين أم أناس يفكرون؟
وتلك المهام اليدوية، القائمة في الطرف السفلي من الطيف، هي التي تبدو في طريقها إلى الزوال.
ولما كانت البروليتاريا هي الأقل عدداً، فإنها من الآن فصاعداً، أقلية. وأدق من ذلك أن نقول: إنه بمقدار ما ينكشف الاقتصاد العالي الرمزية، بكل ماله من قوة، فإن البروليتاريا، تصير كونيياتاريا، الفئة المعرفية.
واليوم، فإن القضايا الأساسية التي يجب أن تُطرح، حول عمل شخص ما، هي هذه:
ماهي درجة أو نسبة مايشتمل عليه العمل من المعالجة المعلوماتية؟
وبأية درجة هو من التكرار أو القابلية للبرمجة، وأي مستوى من التجريد يقتضيها، وأي إمكانية يملكها العامل في الوصول إلى المصرف المركزي للمعلومات؛ وأي استقلال وأي درجة من المسؤولية يملكها؟
التسميات
موجة ثالثة