تقوم الشكوى من "انحطاط الصناعة إلى حدٍّ كبير، على مصالح شخصية، وتستند إلى مفاهيم باطلة عن الثروة، والانتاج، والبطالة،
فمنذ الستينات، أصبح الانتقال من العمل اليدوي أيام الموجة الثانية، إلى الخدمات. والفعاليات العالمية الرمزية Sujersymleolique.... حادثة عامة، مدهشة، وغير قابلة للانعكاس (غير عكوس). ذلك أن هذا النوع من الفعاليات، يشغلُ اليوم أكثر من ثلاثة أرباع الشعب العامل.
أما على المستوى العالمي، فإن هذا الانتقال الكبير يجد مايوضحه، بشكل رائع، في هذا الحادث المدهش، فالصادارت العالمية من الخدمات ومن الخبرات العقلية، تبدو اليوم معادلة لصادرات الإلكترونيات والسيارات، أو، أيضاً، لمايُصدّر من المواد الغذائية والمحروقات.
وكان المستقبليون قد تنبؤوا بهذا التطور، منذ الستينات. وبحكم أن المعنيين، تجاهلوا نُذرنا الأولى فإن هذا التطور قد تمّ بصورة أكثر فوضوية، مما كان ضرورياً.
وبمقدار ما كانت الصناعات المتقادمة العهد التي تأخرت في تزويد إداراتها بالحواسيب والروبوتات، و بطء الأنظمة الإعلامية، في إعادة بناها، كانت ترى أنها سُبقت من قبل مزاحمين أكثر سرعة ومهارة. وصارَ تسريح العمال عظيماً. وكذلك كثُرت الإفلاسات. وكثيرون أولئك الذين عَزُوا هذا الخطأ إلى عدوانية الأجنبي، وارتفاع الفوائد المسرف أو انخفاضها المسرف، وإلى الإفراط في القيود، وإلى ألف عامل آخر.
لاشك أن بعضاً من هذه الأسباب قد قامت بدورها، ولكن الخطأ لم يكن أقل من جانب الصناعات القديمة، مثل صناعة الصلب، والترسانات البحرية، وصناعات النسيج، وماكانت فيه من تصلب وعجرفة- وكانت هذه الشركات تهيمن منذ مدة طويلة على الاقتصاد، وانتهى قصر النظر، لدى إدارات هذه الصناعات، إلى معاقبة أولئك الذين كانوا بالتأكيد الأقل مسؤولية عن هذا الخطأ، والأقل قدرة على حماية أنفسهم- أي العمال.
ولئن كان عددُ عمالِ الصناعة، قد ظل حتى عام 1988 على نفس المستوى الذي كان عليه عام 1968.
فهذا لا يعني أن العمال المسرحين قد عادوا فوجدوا أعمالهم القديمة، بل إن الذي حدثَ هو أنه قامت نقابات من الموجة الثالثة لتحل محل الثانية، وكانت الشركات آنئذ بحاجة إلى قوة عمل مختلفة جذرياً من سابقاتها.
وكانت مصانع الموجة الثانية تستخدم بالدرجة الأولى، عمالاً يمكن أن يحل أحدهم محل الآخر، وبالعكس، فإن عمليات الإنتاج المعاصرة للموجة الثالثة، كانت بحاجة إلى كفاءات متنوعة، ومتطورة باستمرار.
وبتعبير آخر نقول إن العمال تنوعوا، ولم يعودوا قادرين على تبادل الأعمال، كسابقيهم، إلا بنسبة ضئيلة، وهذا مايعني أن مشكلة البطالة تطرح نفسها الآن، في أطر مختلفة جداً.
وكان يمكنُ في الشركات السابقة للموجة الثالثة، حفز الاقتصاد، وخلق فرص عمل جديدة، بحقن جديد للتوظيفات، أو بزيادة القدرة الشرائية لدى المستهلكين.
فلو أنه وجد مليون عاطل عن العمل، لكان من الممكن عندئذ تدفئة المكنة الاقتصادية، تدفئة كافية لاستيعاب هؤلاء العاطلين عن العمل. ذلك أن الاستخدامات كانت متماثلة، ولا تتطلب إلا القليل من الكفاءات، بحيث أن العامل كان يتعلم صورة عمله في أقل من ساعة، وهذا يعني أن من السهل على أي عامل أن يحل محل الآخر.
أما في الاقتصاد العالي الرمزية، فإن الأمر ليس بنفس السهولة، ولهذا فإنه ليس يوسع نصائح كينيزي التقليدية، ولا المعالجات النقدية، أن تقدّم نتائج جيدة. ولنذكر أن John Maynard Keynes (حون مينار كينزي) في محاولته التغلّب على الأزمة الكبرى، أزمة الثلاثينات، دعا إلى زيادة الانفاقات العامة المموّلة على حساب عجز الموازنة، والمُعدة لملء جيوب المستهلكين.
ومتى حصل هؤلاء على المال، فإنهم سيندفعون وراء المشتريات. وهذا مما يحفز رجال الصناعة على تكبير تجهيزاتهم، واستخدام أكبر للعاملين، وعندئذ نقول: وداعاً للبطالة.
وكان رجالُ النقدِ يوصون بوسائل أخرى: مثل تغيير نسبة الفائدة، وزيادة أو تقليل الكتلة النقدية، وكانت هذه التدابير كافية لتنمية أو إضعاف القدرة الشرائية تبعاً للحاجات.
أمّا في الاقتصاد العالمي اليوم، فإن مجرّد ملء جيوب المستهلكين بالمال، قد يؤدي بكل بساطة إلى جعله يمضي إلى ماوراء البحار، من غير أن يستفيد منه الاقتصاد الوطني أية فائدة. فالأمريكي الذي يشتري تلفزيوناً جديداً أو بلاتينة (للأسطوانات المضغوطة)(1)، لا يفعل شيئاً آخر غير نقل دولاراته إلى اليابان أو كوريا، أو ماليزيا، أو أي مكان آخر. وليس على المشتريات أن تزيد، بالضرورة، جملة الاستخدامات في الولايات المتحدة.
غير أن في الاستراتيجيات العتيقة ثغرة أخرى أيضاً، من حيث أنها تظلّ مركزة على تداول النقد، لا على تداول المعرفة. بيد أنه لم يعد ممكناً، أن نقلل من البطالة، بمجرد زيادة عدد الاستخدامات، ذلك أن المشكلة لم تعد كمية فقط، إن البطالة قد أصبحت قضية "كيفٍ" لا قضية كم.
وهؤلاء العاطلون عن العمل، بحاجة إلى المال، حاجة مُلحة، حفاظاً على بقائهم وبقاء أسرهم، وإنه لمن الضروري اجتماعياً، والمبرّر أخلاقياً، أن نقدّم لهم مساعدة من مستوى مقبول. غير أنّا في الاقتصاد العالي الرمزية، بحاجة إلى استراتيجية تقدّم بغية تخفيف حجم البطالة. ولا يمكن لهذه الاستراتيجية أن تكون ناجعة إلا بشرط الاستناد، لا إلى مساعدة مالية، بل إلى هبة معرفية.
وأكثر من ذلك أن الاستخدامات الجديدة قلّما يكون لها حظ في التحوِّل إلى معامل من النوع الذي مازلنا نتخيله. والشيء الذي يطلبونه (أي يطلبه العاطلون عن العمل)، ليس فقط هذا الاختصاص أو ذاك في الميكانيك، فقط، حتى ولا في الرياضيات، على مايدّعيه بعضُ الصناعيين - بل هو مساحةُ واسعة من الكفاءات الثقافية والقدرات أو الاستعدادات لتقبل العلاقات الاجتماعية.
ويجب علينا أن نهيئ الناس، عن طريق النظام التعليمي و (التنظيمات المهنية) وبالتعليم المباشر.. لأعمال، من نوع صُوَر العناية التي يُمكن أن تقدم للشعب، شعب الموجة الثالثة (الذي يتنامى بسرعة) أو للأطفال أو لتعليم بعض المهن المتصلة بالخدمات الصحية، أو الأمان الشخصي، أو تعليم الآخرين، أو حسن قضاء أوقات الفراغ، أو زيادة التسليات، أو في قطاع السياحة وأشياء أخرى من هذا النوع.
ويجب علينا أيضاً أن نبدأ باحترام هذه الخدمات، المقصورة حتى الآن على العالم الصناعي، بدلاً من شبه الاحتقار لأناس هذا القطاع، موحّدين بينه وبين صناع الهمبورغر، كما لو أن السيد ماكدونالد، يمكنه أن يرمز إلى مجموعة من الفعاليات، تشتمل في الوقت نفسه على التعليم، كما تشتمل على العمل في الوكالات العائلية (ماتعلق منها بالزوجين، أو مايتعلق بالحقوق العائلية) أو في مركز التصوير الشعاعي في مستشفى ما.
وعدا ذلك، فإنه إذا كانت الأجور في قطاع الخدمات، هابطة جداً، فيما يقال، فإن الحلّ لا يكون في الأسى على الانحطاط النسبي للاستخدام في القطاع الصناعي، بل يكون في زيادة الإنتاجية في مختلف الخدمات، وابتكار صور مناسبة لتنظيم العمال، وللمفاوضات الجمعية.
فالنقابات التي أُسست في الأصل، إما من أجل العمال المتخصصين، وإما لعمال الإنتاج الكثيف. يجب أن تتحول تحولاً كليّاً، أو ترك المجال حراً لبنى عالية الرمزية. فإذا أرادت النقابات أن تبقى حيّة، فإن عليها أن تَكُفَّ عن معاملة العمال، كما لو أنهم جمهور لا تميّز فيه، وأن تبدأ في النظر إليهم، كأفراد -شخصيات، وذلك بتقديم العون، لا بالوقوف ضد بعض التدابير الحسنة كالعمل في البيت والساعات المرنة، وتقاسم الوظائف والمراكز في العمل على سبيل المثال، بل في قبول هذا وأمثاله.
والخلاصة، فإن نمو الاقتصاد العالي الرمزية، يرغمنا على إعادة التفكير إعادة كلّية في مشكله البطالة. أما إعادة البحث في أقوال مهترئة، فإن ذلك يعني تحدِّي أولئك الذين يستفيدون منها. وهكذا فإن نظام خلق الثروة، في الموجة الثالثة، يُهدد السلطات المسيطرة التي تشغُل مراكز أُحسن الدفاع عنها في الشركات الكبرى، وفي النقابات والدول.
(1) الاسطوانات المضغوطة هي نوع جديد من الاسطوانات التي اخترعت حديثاً.
التسميات
موجة ثالثة