الأسرة من مركز العالم الاجتماعي إلى تجريدها من أكثر وظائفها والإبقاء على الأسرة النووية التي يقوم انسجامها على العلاقات النفسية

كانت الأسرة الموسّعة، قبل الثورة الصناعية، هي النوع الغالب، وكانت حياتها تدور حول البيت المشترك، فهناك كان الناس يعملون ويعنون بالمرضى، ويربون الأطفال. بل إن هذا البيت هو مجال اللهو والمكان الذي يُهتم فيه بالأكبرين عمراً. إن الأسرة ، أيام الموجة الأولى، كانت مركز العالم الاجتماعي.

أما انحطاط هذه المؤسسة فإنه لم يبدأ مع الدكتور سبوك DR SPOCK  ولا مع PLAY BOY (المجلة المفرحة للشباب) بل بدأ عندما قامت الثورة الصناعية بتجريد الأسرة من أكثر وظائفها. إذا لقد انتقل العمل إلى المصانع والمكاتب. ثم أرسل بالمرضى إلى المستشفى، والصغار إلى المدرسة، والأزواج إلى السينما، والكبار عمراً إلى بيوت المتقاعدين (دور السعادة).

وعندما دفع بكل المهام إلى الخارج، لم يبق شيء غير الأسرة  النووية، التي يقوم انسجامها لا على الوظائف أو الأعمال المنجزة من قبل عضويها بالدرجة الأولى، بل على علاقات نفسية، ما أسهل أن تقطع.

لكن الموجة الثالثة تعيد إلى الأسرة والمنزل، كل أهميتهما، إنها تَرُدّ إليها عدداً من الوظائف المضيعّة، التي كانت في الماضي تجعل منها الخلية الأولى للمجتمع، ويقدّر عدد الأمريكيين الذين يعيدون إلى المنزل (لنقل الشقة) جزءاً من أعمالهم، مستخدمين، الفاكس والهاتف وتقانات أخرى من الموجة الثالثة، بحوالي ثلاثين مليوناً.

وكثيرون من الأهل يفضلون تربية أبنائهم في البيت. إلا أن التغيير الحق سيتم في اليوم الذي يدخل فيه "التلفزيون -الحاسوب" إلى البيوت، ويدمج هذا كله بالتربية. والمرضى ما سيكون شأنهم؟

ونلاحظ الآن أن عدداً أكبر فأكبر من المهمات الطبية التي كانت تتم في المستشفى أو في عيادات الأطباء -من اختبارات الحمل إلى قياس الضغط - صارت الآن تتم في المنزل.

وفي هذا كله ما يحمل على التفكير بأن السقف العائلي يستعيدُ شيئاً ما من أهميته، وإن دور الأسرة يتنامى- ولكنها الآن أسرة متنوعة الأشكال: بين النووية، وبين الموسعة، وحتى الأسرة التي تجمع بين عدة أجيال تحت السقف نفسه".. منهم أناس تزوجوا مرة ثانية، وبعضها كثيرة الأفراد، وبعضها محدودة العدد، أو بدون أطفال، وقد يوجد بين هؤلاء من اختار مبكراً أن يكون له أطفال، ومنهم من اختار الانتظار حتى بلوغ سن النضج.

وهذا التنوع في البنية العائلية، يعكس صورة التنوع التي نجدها في الاقتصاد والثقافة، بمقدار ما يتفتت  مجتمع الجماهير العائد للموجة الثانية.

والمفارقة هي أن عدداً من دعاة القيم العائلية لا يخدمون تعزيز الأسرة، عندما يدعون إلى العودة إلى الأسرة النووية: فهم يحاولون استعادة النموذج العام، الذي كان سائداً أيام الموجة الثانية.

فإذا كنا نريد حقاً دعم الأسرة وأن يعود البيت ليصبح مؤسّسة مركزية، فإن علينا أن ننسى الأسئلة الهامشية وأن نقبل التنوع، وأن نعيد إلى الأسرة مهام كبيرة.

وكقاعدة عامة، نقول إن أمريكا هي التي يعيّن لها المستقبل موعداً.
وإذا كنا نتألم من انهيار مؤسساتنا القديمة، فنحن أيضاً رواد حضارة جديدة. وبتعبير آخر، نحن مضطرون إلى العييش في وضع شديد القلق، يصعب معه التنبؤ، بالكثير من انعدام التوازنات، والاضطرابات والانقلابات، وعدا ذلك، فإنه ما من أحد يستطيع الادعاء بأنه يعرف الكلمة التي سيقولها التاريخ، أو أن يعرف إلى أين نمضي، حتى ولا أن يقول: إلى أين يجب أن نمضي. وفي وسط هذا الضباب، يجب أن نتقدم ونحن نتلمس الطريق، دون أن نهمل أية مجموعة.

ومن شأن هذه المعايير القليلة، أن تساعدنا على تمييز السياسات المتجذّرة في الماضي، ماضي الموجة الثانية، من تلك التي تستطيع أن تهيئ مستقبل الموجة الثالثة. وكل قائمة من المعايير تشتمل، مع ذلك، على شيء من الخطر، هو أن يحاول بعض الناس تطبيقها بصورة آلية، أو بحرفيتها، أو حتى بشيء قليل أو كثير من التعصب الأعمى.

وفيما عدا وزنة مناسبة من حب المرح وحسّ النسب (أي أن يقدر الإنسان نسبة الأشياء بعضها إلى بعض وتبعاً لأهميتها) فإن التسامح مع الخطأ، والالتباس، وبصورة خاصة، سمة التنوع، كل هذا هو جزء من التجهيزات المساعدة على البقاء التي ينبغي أن نحملها معنا في اللحظة التي نريد فيها القيام بهذه الرحلة المدهشة والغريبة، إلى الألف الثالث من تاريخنا. وعلينا أن نتهيأ أحسن التهيؤ إلى ما عساه أن يكون النزهة الفائقة الغرابة في التاريخ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال