الأدب المقارن: ماذا نقارن؟ وكيف؟.. دراسة مواطن التلاقي بين الآداب. تطوير نماذج مقارنية قائمة على أسس نظرية واضحة

ماذا نقارن؟
وهل نقصر المقارنة على الظواهر الأدبية التي تربطها صلات تأثير وتأثر، أم نوسّع دائرة المقارنة، بحيث تشمل أيضاً كلّ الظواهر الأدبية التي نرى فائدة من المقارنة بينها؟
تلك أسئلة تطرقنا إليها آنفاً وحددنا موقفنا منها بوضوح.

أمّا السؤال الذي لم نتطرق إليه بعد فهو: كيف نقارن؟
فلا يكفي أن نعرف لماذا نقارن، وماذا نقارن، بل لابدّ لنا من أن نعرف كيف نمارس المقارنة، وهذا هو الجانب التطبيقي في الأدب المقارن.
من الناحية المبدئية يتحدّد الجواب عن هذا السؤال على ضوء مفهومنا للأدب المقارن.

فإذا نظرنا إليه كعلم "يدرس مواطن التلاقي بين الآداب"، فإنّ جهودنا ستنصبّ بالضرورة على حالات التأثير والتأثر بين أدب قومي وآداب قومية أخرى، حيث نقوم باستقصاء سبل ذلك التأثير وأشكاله من خلال المصادر والنصوص والوثائق الأدبية المختلفة، بهدف إثباته، وتحديد نوعه ونتائجه الفكرية والفنية.
وهذا هو السبيل الذي يفضي إلى تبيّن "ما هو قوميّ وما هو دخيل" في الأدب القومي.

أمّا إذا رفضنا أن نحصر الأدب المقارن في دراسة العلاقات الأدبية العالمية، وتبنينا مفهوماً لا يضع قيداً على المقارنة غير قيد الجدوى المعرفية، تختلف الظواهر الأدبية التي نتناولها بالبحث المقارني، وتختلف الطريقة التي نستخدمها في المقارنة، وتختلف بالتالي النتائج التي نتوصل إليها في نهاية الأمر.

ولكن في كلّ الأحوال فإنّ المقارنين العرب قلّ أن قدّموا نماذج إجرائية يمكن للمرء أن يستخدمها في ممارسته المقارنية، وقلّ أن تصدّوا لمسألة: كيف نقارن؟

ولعلّهم عدّوا هذه المسألة بدهية وغنيّة عن الشرح، متوقعين ضمنياً أن يستخدم المقارن العربي ما توفره له علوم أدبه القومي من خبرات في مجال المقارنة، مثل المقارنة التي عرفها النقد الأدبي العربي، قديمه وحديثه.

أمّا على الصعيد التطبيقي فإنّ معظم ما أنجزه المقارنون العرب من دراسات حتى الآن يدخل في باب بحوث التأثير والتأثر، التي ينصبّ فيها الجهد العلمي على إظهار أوجه التشابه أو التقابل أو التناظر بين أعمال أو شخصيات أدبية عربية وأخرى أجنبية، وعلى محاولة جلاء تلك الظواهر عن طريق البحث التاريخي.

وقد شكّل هذا النوع من الأبحاث نسبة عالية من الأبحاث المقدمة إلى مؤتمرات "الرابطة العربية للأدب المقارن".

أمّا المواضيع المحببة في دراسات التأثير والتأثر العربية فهي: تأثر دانتي بأبي العلاء المعري، وتأثر الآداب الأوروبية بقصص ألف ليلة وليلة، وتأثير الموشح الأندلسي في شعر التروبادور الأوروبي، وتأثر الأدب العربي الحديث بالآداب الأوروبية.

ومن الملاحظ أنّ دراسة علاقات التأثير والتأثر بين الأدبين العربي والفارسي قد تراجعت بصورة واضحة لصالح دراسة العلاقات الأدبية بين العرب والأوروبيين.

ولقد أبدينا في مداخلات متعددة قدمناها إلى المؤتمر الثاني للرابطة العربية للأدب المقارن اعتراضاً شديداً على دراسات التأثير التي تقدّم بها الزملاء، وبيّنا أنها تقوم على أساس نظريّ هشّ لم يعد مقبولاً، خصوصاً بعد أن قدّمت نظريتا التلقي والتناصّ تفسيراً أفضل لما تطلق عليه تسمية ظواهر التأثير والتأثر.

فدراسات التأثير والتأثر تقلل من أصالة الأديب المتأثر، وتظهره في مظهر من يقلّد الأدباء الأجانب، إن لم يكن في مظهر من يمارس السرقة الأدبية، وذلك رغم محاولات أنصار هذا المنحى المقارني التخفيف من ذلك الانطباع بالتأكيد على أنّ "محور التأثير في الأدب أو الإفادة من الآداب الأخرى هو الأصالة".

فمما لايمكن إنكاره حقيقة أنّ بحوث التأثير تعطي الجانب المتأثر دوراً سلبياً، إذ تضعه في موقف المنفعل لا الفاعل، طامسة بذلك دوره الإيجابيّ الخلاق.

وبالمقابل فهي تعطي الطرف الأدبي المؤثر دور الفاعل الإيجابي، رغم أنّ الصحيح في الواقع عكس ذلك.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال