من خلال رؤية الإنسان تتشكل صورة العالم، وعلى طبيعة وعيه وأنماط سلوكه اليومي، وطبيعة العلاقات الإنسانية التي يمارسها في يومه وليلته مع بقية أبناء جنسه تتأرجح هذه القيم والمبادئ الثنائية سلبية وإيجابية؛ في علاقات من الدفع والتدافع المحرك والحافز، الذي يسم حركة هذا الإنسان الجهول بطبعه، وهو التدافع الذي لولاه لتوقفت الحياة وتعطلت جوانبها، وهو المعنى الذي نتعلمه من قول القرآن الكريم: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) البقرة: من الآية:251.
ولمَّا كان الإنسان كائنا متعلما، تميز عن بقية كائنات الله ومخلوقاته في الأرض بالتفكر والتدبر؛ فقد لجأ إلى كل سبيل تيسر له الارتقاء، وتعينه على التعامل مع وقائع حياته، وتخطي عقباتها المختلفة الطبيعية منها والاجتماعية. وهنا كان "المثل" نموذجا يعبر عن قدرة الإنسان المتجددة على التعبير عن مواقفه وخبراته من ناحية، والاستفادة –وهذا هو الأهم- من هذا الرصيد الخبراتي، والاستعانة به في تطوير أداءاته السلوكية من ناحية أخرى.
من هذه الزاوية يمكننا النظر إلى مصنفنا "مجمع الأمثال.. للميداني" بوصفه ذاكرة إنسانية للعقل الإنساني عامة والعربي خاصة؛ إنه دفتر يوميات يعيننا على قراءة الماضي، وفهم الحاضر، واستشراف المستقبل.
هذه المعاني سنحاول استقصاءها من خلال حكاية المثل؛ إنها في الحقيقة حكاية واحدة، أفرزت لنا أمثلة عدة، من هذه الأمثلة:
(أشأم من سراب- أعز من كليب وائل- كالمستغيث من الرمضاء بالنار...)
ما الحكاية؟ وأين القصة؟ وما المغزى؟
أما الحكاية؛ فهي حكاية أربعين عاما كاملة من الحرب والقتال.
نعم، أربعون عاما كاملا هي مدة تلك الحرب التي دارت رحاها في الجاهلية بين قبيلتين كبيرتين (بكر–تغلب)؛ إنها "حرب البسوس" ..
هل تعرفون لماذا سميت بالبسوس؟؟
هل تعرفون أسباب هذه الحرب التي دارت رحاها في الجاهلية؟
وهل تعرفون أبرز رجالها وأبطالها وما آلت إليه؟
كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير أجابتنا عنه كتب الأمثال العربية؛ وكل هذه الأحداث وجدنا صداها ومحتواها في مرجعنا الأدبي "مجمع الأمثال للميداني"؛ ابتداءً بالقول الموجز البليغ الحكيم –كما ذكرناه سابقا- وتتمة بالسرد الفني المفصَّل لأحداثها وملابساتها الدرامية ووقائعها:
"أشأم من البسوس"
هي بسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب, وكان من حديثه أنه كان للبسوس جارٌ من جرم يقال له سعد بن شمس وكانت له ناقة يقال لها سراب، وكان كليب قد حمي أرضاً من أرض العالية.. فلم يكن يرعاه أحدٌ إلا إبل جساس لمصاهرة بينهما... فخرجت سراب ناقة الجرمي في إبل جساس ترعي في حمي كليب، ونظر إليها كليب فرماها... فاختل ضرعها، فولت حتى بركت بفناء صاحبها وضرعها يشخب دماً ولبناً، فلما نظر إليها صرخ يا للذل, فخرجت جارية البسوس ونظرت إلي الناقة، فلما رأت ما بها ضربت يدها علي رأسها ونادت واذلاه، ثم أنشأت تقول:
لَعَمْرُك لو أصْبَحْتَ في دارِ منقذٍ
لما ضِيْمَ سـعْدٌ وهْوَ جـارٌ لأبياتي
ولكِنَّني أصبحتُ في دار غربةٍ
متي يعْدُ فيها الذِّئْبُ يعْدُ علي شاتي
فيا سعْدُ لا تغْرُرْ بِنَفْسِك وارْتَحِل
فإِنَّكَ في قـومٍ عنْ الجـارِ أمواتِ
... فلما سمع جساس قولها سكنها وقال: أيتها المرأة ليُقْتَلَنَّ غداً جملٌ هو أعظم عقراً من ناقة جارك، ولم يزل جساس يتوقع غرة كليب حتى خرج كليب لا يخاف شيئاً، وكان إذا خرج تباعد عن الحي، فبلغ جساساً خروجه, فخرج علي فرسه وأخذ رمحه واتبعه عمرو بن الحرث فلم يدركه حتى طعن كليباً ودق صلبه، ثم وقف عليه فقال: يا جساس أغثني بشربة ماء، فقال جساس: تركت الماء وراءك, وانصرف عنه ولحقه عمرو، فقال: يا عمرو أغثني بشربة، فنزل إليه، فأجهز عليه، فضرب به المثل فقيل:
المستجيرُ بعمروٍ عند كربته
كالمستجير من الرَّمْضَاء بالنَّاِر
إننا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن قراءة كتب الأمثال العربية قراءة واعية متعمقة، ستكشف لنا عن رافد ثري وخفي من روافد الفن القصصي العربي الحديث، الذي أخذ قواعده الفنية وصورته المعيارية فنًّا أدبيا محدثا من الغرب، ولكنه استقى جذور مادته القصصية في جل هذا الإبداع القصصي من تراثه العربي التليد الأصيل، ذلك التراث الثري بصور شتى من الكتابة الفنية المتميزة القائمة على توظيف عناصر الفن القصصي من شخصيات وأحداث درامية وفضاءات مكانية وأخرى زمانية؛ كل هذا نجده في شكل أقاصيص ممتعة بين طيات كتب التراجم والتاريخ، والمقامات، والسير، وأدب الرحلة، كما نجده –كذلك- مصاحبا لبنية المثل في كتب الأمثال؛ ففي مجمع الأمثال نجد المثل مصحوبا بشرحه وتفسيره، الذي غالبا ما يقدم في صورة حكاية أو خبر قصصي ينتمي إلى المرجعية الواقعية، أو يمتح من الخيال مادته، أو يجمع في تضاعيفه بين المرجعيتين الواقعية والخيالية.
وهكذا الإبداع مساحة بين الواقع والمتخيل أو جسر للمرور بين ما حدث وما نتمنى أن يحدث..
إنه الجسر الذي نعبر منه إلى هنا وهناك مرات ومرات دون حواجز وإثبات هوية لأن الهوية الإنسانية هي جواز المرور الوحيد في العالم الإبداعي الذي يعد "برزخا" بين الحقيقة والخيال أو بين الواقع والحلم.
وكان "المثل" عند الميداني "برزخا" للعبور إلى القصة.