في هذا الفصل يتناول الأستاذ حسن حميد واحدة من أشهر الروايات العالمية ألا وهي رواية الأيرلندي جيمس جويس (عوليس) التي حظيت بأكبر قسط دعائي روّج لكل طبعاتها في أرجاء مختلفة من العالم، واستخدمت أغلب الوسائل الدعائية وأكبر الأبواق الترويجية التي أثارت فضول القراءة ورغبتهم في الاطلاع عليها.
وحتى قرار منعها في أمريكا، استخدم كوسيلة من وسائل الترويج لها بين القراء الأمريكان الذين أصيبوا، بعد قراءتها، بخيبة أمل وإحباط كبيرين.
وفي بلادنا العربية نالت هذه الرواية من الإطراء والتمجيد والاحتفاء والإشادة والانبهار ما لم تنله رواية أخرى بسبب الدعاية والترويج المرفدين من قناتين أساسيتين:
الأولى خارجية والثانية داخلية. الأولى عارفة بما تقوم به ولماذا، والثانية عمياء تطبل بغباء لما قالته الفئة الأولى أو القناة الأولى.
حتى إنها فاقت في الدعاية والترويج رواية داريل (رباعية الإسكندرية) ورواية قسطنطين جورجيو (الساعة الخامسة والعشرون) وكلاهما روايتان تمجّدان نبل وأخلاق اليهود وسمو سلوكهم وترفّعهم الحضاري عن العنف والوحشية والعداء الشرس الذي تعرضوا له عبر التاريخ وكلاهما تنعم عليهم بالصفات الجميلة وتعتبرهم (ضحية) حالمة بخلاصها في (أرض الميعاد).
إنّ الأستاذ حسن حميد، على الرغم من كل هذه الحقائق وأخرى غيرها لم يشن هجوماً على هذه الرواية ولم يدافع عنها بل تناولها بعدم انحياز لما قيل عنها، وبلا تأثر بما روّج لها وكل ما قام به هو أنه قرأها بصبر وتجرّد وأناة وترو متفحصاً ومدققاً ومحللاً ومفسراً أفكار الرواية التي صبّت في نهاية الأمر في مصب تمجيد اليهودية وحلمها بـ(أرض الميعاد)، وأجاب على الأسئلة المعلقة أو الأسئلة التي غفلها أو تغافلها النقاد العرب حتى يومنا هذا:
لماذا اشتغل جويس عمله هذا على بطل يهودي؟!
لماذا وظّف التاريخ والأمكنة والوقائع، والسلوك، والآخرين، والظروف، والدنيا بلونيها الأبيض والأسود من أجل هذا البطل اليهودي (بلوم)؟!
لماذا لم يقدّم جويس هذا البطل ـ النموذج كإنسان أو فرد أيرلندي؟!
لماذا لم يقدّم جويس اليهودي (بلوم) بطلاً لرواية (عوليس) وقد سيّجه بمجموعة من الأصدقاء المنقذين له من كل أمر والساهرين على صفاء حياته والمهمومين بالمحافظة على وحدته النفسية والجسدية؟
وتأتي إجابته على تلك الأسئلة إجابة وافية شافية إذ يقول:
الأمر في قناعتي يعود إلى ذلك الخيط الخفي المتسرّب بحضور قوي في كل فصول الرواية والذي يكاد يكون ناظماً لها والمتمثل في نزعة الحنين التي يجسدها (جويس) تجسيداً صريحاً وواضحاً عند بطله (بلوم) والشخصيات الأخرى المصاحبة له كالجوقة، أعني نزعة الحنين إلى العودة، الحنين إلى (أرض الميعاد) في فلسطين!! ذلك الخيط الخفي الحاضر بقوة في الرواية هو المبرر الوحيد والأبرز والأهم لوجود شخصية أساسية يهودية في عمل كبير وضخم مثل (عوليس)، شخصية قلقة ذات بلبال، وحيرة مركّبة، مخاوفها ناشئة من طبيعة المجتمع الأوربي المحيط بها، واطمئنانها مستقطر من حلم (العودة) وتحقيق غاية الوصول إلى (أرض الميعاد).
الأمر في قناعتي يعود إلى ذلك الخيط الخفي المتسرّب بحضور قوي في كل فصول الرواية والذي يكاد يكون ناظماً لها والمتمثل في نزعة الحنين التي يجسدها (جويس) تجسيداً صريحاً وواضحاً عند بطله (بلوم) والشخصيات الأخرى المصاحبة له كالجوقة، أعني نزعة الحنين إلى العودة، الحنين إلى (أرض الميعاد) في فلسطين!! ذلك الخيط الخفي الحاضر بقوة في الرواية هو المبرر الوحيد والأبرز والأهم لوجود شخصية أساسية يهودية في عمل كبير وضخم مثل (عوليس)، شخصية قلقة ذات بلبال، وحيرة مركّبة، مخاوفها ناشئة من طبيعة المجتمع الأوربي المحيط بها، واطمئنانها مستقطر من حلم (العودة) وتحقيق غاية الوصول إلى (أرض الميعاد).
لقد وضح هدف جويس في هذه الرواية، فهو لم يتطرق إلى هموم شعبه ومواطنيه، ولم يستهدف إبراز هموم وأحزان ومآسي الأيرلنديين ومعاناتهم وجهادهم ونضالهم وويلاتهم، بل استهدف حياة اليهودي (بلوم)، وكل ما يتعلق بها من معاناة جعله في نظر الآخرين ومنهم جويس (ضحية) للمجتمع الأوربي، وأكد فيها على حلم ذلك اليهودي بالعودة إلى (أرض الميعاد).
لقد غفل النقاد العرب وربما تغافلوا عن هذه الحقائق التي تضمنتها الرواية وتطرقت لها بوضوح لا لبس فيه ولا غبار عليه. هنا يسوق لنا الأستاذ حسن حميد أمثلة واستشهادات مختلفة، كلها، تؤكد على أنّ جويس:
كان واضحاً في دعايته لليهود وواضحاً في تعاطفه معهم بعدما كرّس مساحات كبيرة من الرواية (عوليس) للحديث عنهم وعن نزعة الحنين للعودة إلى (أرض الميعاد) في فلسطين.
ومن تلك الاستشهادات نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، نعي جويس على (أرض الميعاد) موتها ومواتها لأنها بلا يهود، إنها أرض بوار ميتة وبوار بعيداً عنهم:
أرض بوار، بحيرة بركانية، البحر الميت: لا سمك أو أعشاب، غائر في عمق الأرض، لن ترفع ريح هذه الأمواج. رصاص رمادي، مياه سامّة عكرة. قالوا إنها أمطرت كبريتاً. مدن السهل: سادوم وعامورة وآدوم كلها أسماء ميتة. بحر ميت في أرض ميتة. رمادية عتيقة. قديمة الآن أنجبت الأوائل. الجيل الأول. عبرت عجوز منحنية الظهر من محل كاسيدي، تقبض على زجاجة من عنقها. أول خلق الله. وهاموا بعيداً في أنحاء الأرض، من أسر إلى أسر. يتزايدون ويموتون ويولدون في كل مكان. وهناك ترقد هذه الأرض، والآن ليس باستطاعتها أن تنجب شيئاً، ميتة كجسد امرأة عجوز. العالم الرمادي الغائر. خراب ص70.
وبعد أن يسوق لنا الاستشهادات الواضحة والأدلّة الدامعة يقول متسائلاً:
تُرى إذا كانت هذه الأفكار والأحلام كلها التي نثرها (بلوم) اليهودي في رواية (عوليس) لم تلفت انتباه نقّادنا، فهل كان تحامل (جويس) على لسان (بلوم) وغيره من الشخصيات على الدين المسيحي غير لافت لانتباههم أيضاً؟ ربما، ففي التجاهل فوائد قد لا نعلمها أبداً!!
بعد هذا كله نجد أنفسنا كقرّاء للـ (البقع الأرجوانية) أمام السؤال المهم: ما الذي أراده (جويس) من كل هذا؟ أو ما الذي أراده أولئك الذين يقفون وراء (جويس) كأفراد أو مجاميع من الرواية؟ وتأتي الإجابة من داخل الرواية نفسها، ومن أسلوبها الذي حاول أسطرة شخصية (بلوم) على وفق أسطورة (يوليسيس).
فاليهودي (بلوم) هو (يوليسيس) العصر الراهن (الممتلئ بالحكمة والنجاح والقوة الداخلية الصلبة، وتبدو المفارقة جلية وواضحة ما بين هوميروس (يوليسيس) وجويس (بلوم)، وذلك أنّ جويس أوجد (يوليسيساً) عصرياً وهو ابن شارع عكس هوميروس الذي كان (يوليسيسه) من النبلاء).
لقد حاول الأستاذ حسن حميد من خلال هذه الوقفة أو المراجعة النقدية الكشف عمّا فيها كي لا يظل القارئ العربي والأديب العربي أسير الإعلام والديماغوجيا والتضليل والتطبيل لعمل كان يتحامل بشكل عنصري على الشعب العربي الفلسطيني الذي بذل لأجل عدالة قضيته كل غالٍ ونفيس.