الميتامسرح الملحمي: "اقتناء النحاس" لبريشت.. محاكاة ساخرة لنوع درامي جاد وسام هو الأوبرا بما تحيل عليه من أبعاد فنية وإيديولوجية

تجدر الإشارة، في البداية، إلى أن الإحاطة الشاملة بالميتامسرح الملحمي تستلزم استحضار الريبرتوار المسرحي البريشتي، لاسيما وأن مسرح بريشت لم يبلور تجربة إبداعية جديدة وحسب، وإنما صاغ المبادئ الأساسية لشعرية قائمة الذات نهضت على أنقاض الشعرية الأرسطية.

واللافت للانتباه أن بريشت لم يتوان عن تجلية هذه المبادئ عبر وسائل مختلفة منها تنظيراته وإبداعاته المسرحية نفسها.

وإذا كان الجانب الذي يستأثر باهتمامنا هو الصيغة الإبداعية لهذه الشعرية، فإن الوقوف على مختلف تجلياتها يتطلب استحضار جل النصوص المسرحية ذات الطابع الميتامسرحي، البارز منه والمضمر.

لكن، مادام مثل هذا العمل الشامل يتجاوز حدود إمكاناتنا الحالية، فإننا نرى أن مقاربة مسرحية "اقتناء النحاس L’Achat du Cuivre" كفيلة بإضاءة جوانب أساسية في الشعرية الملحمية.

لا مناص أولا من التمييز بين صيغتين إبداعيتين للميتامسرح الملحمي: تتمثل الأولى في كتابة نصوص مسرحية بالمعنى المتعارف عليه، تندرج في إطار المتخيل، ومنها "أوبرا القروش الثلاثة" التي جعل منها بريشت محاكاة ساخرة لنوع درامي جاد وسام هو الأوبرا بما تحيل عليه من أبعاد فنية وإيديولوجية.

لقد جعل منها بريشت خطابا نقديا وإيديولوجيا كشف فيه مظاهر الانسجام والإيهام اللذين تكرسهما الأوبرا قصد إخفاء التناقضات الاجتماعية، ذلك "أن التفكير في الأوبرا ليس منفصلا عن النقد الاجتماعي.

فالأوبرا شكل برجوازي بالخصوص يحاول أن يحافظ على العنصر الرومانسي للفن داخل عالم غير سليم. إن التفكير يكشف، الآن، طابعها الشيطاني ويعري شاعريتها المبنية على التسليم بوجود عالم منسجم، كما يعري اللذة التي تصاحبها" (1).
فهذه الصيغة الأولى تجعل النقد ينصهر في إطار مسرحي تخييلي.

أما الصيغة الثانية، فهي التي صاغها بريشت في ما يشبه المسرحية حيث لا نجد أنفسنا ونحن نقرأها أمام عمل تخييلي، وإنما أمام حوارات بين شخصيات، قائمة على صراع درامي ذي طبيعة أدبية وفكرية وليس سيكولوجية.

إن مثل هذه الأعمال مكتوبة، بالأساس، من أجل بلورة خطاب نقدي ونظري إلا أن صيغتها التعبيرية تجعل منها نصا مسرحيا.

في هذا الإطار يندرج نص "اقتناء النحاس" (1937/1951)، الذي يكشل نموذجا "لهذا الإنزلاق من ممارسة النقد إلى ممارسة المسرح" (2).

"اقتناء النحاس" عبارة عن حوار طويل بين أربع شخصيات هي: الفيلسوف، الدراماتورج، الممثل والممثلة؛ يحاول بلورة طريقة جديدة لممارسة المسرح.

وقد قسم بريشت هذا النص إلى أربع متواليات كبرى سماها "الليالي"، وهو تمفصل يستهدف الإيحاء أو "الإيهام بالمسرح"، وليس بالواقع، وجعل القارئ يتعامل مع النص باعتباره مسرحية حقيقية.

وقد حاول بريشت، منذ بداية النص، أن يدعم هذا الإيهام وذلك من خلال إرشاد مسرحي يبدأ به ويصف فيه عناصر الفضاء المسرحي ومواقع الشخصيات داخل هذا الفضاء.

وفوق ذلك، نلاحظ أن الشخصيات نفسها تحاول تثبيت هذا الإيهام بالمسرح، ولاسيما منها الدراماتورج الذي يقول:
"الدراماتورج: ...يمكننا، ونحن نتحدث عن المسرح، أن نشعر كما لو أننا نتحاور أمام جمهور، أي نؤدي بأنفسنا مسرحية صغيرة. بإمكاننا أيضا - إذا كان ذلك  سيضيء نقاشنا - أن نقوم، هنا وهناك، بتمارين على سبيل التمثيل" (3).

يستشف من هذا القول أن الميتامسرح في "اقتناء النحاس" لن يبقى في حدود الصياغة الخطابية، بل سيتحول إلى ممارسة فوق الخشبة.

إن هذا التلاحم بين النظرية والممارسة المسرحية يضفي خصوصية على الشعرية الملحمية في هذا النص بحيث  تصبح شعرية كلمة وفعل في آن واحد.

ولتكريس الطابع التخييلي لهذا النص الميتامسرحي من بدايته حتى نهايته، اختار بريشت عنوانا استعاريا لا يطابق محتواه المباشر ما يجري في النص.

فالفيلسوف هو الذي يتخذه وصفا استعاريا لموقفه من المحاكاة في المسرح. ففي الوقت الذي يحاول الممثل التأكيد على أن المحاكاة لا تتم دون تشغيل الإحساسات والعواطف، يقول الفيلسوف أن ما يهمه هو أحداث الحياة الواقعية، وأن الإمساك بها، في المسرح، هو الفائدة المرتجاة من هذا الفن.

لذا، يلجأ إلى شرح موقفه عن طريق مقارنته بموقف بائع النحاس:
"الفيلسوف: ...أشعر بتميز هذا الاهتمام إلى حد أني أتجه لمقارنة نفسي ببائع نحاس ذهب عند جوقة أبواق، ليس لاقتناء بوق وإنما لاقتناء النحاس فقط.
صحيح أن البوق من نحاس لكن حظوظ قبول بيعه باعتباره نحاسا وبثمن النحاس ووزنه، جد ضئيلة. ورغم ذلك، فأنا أبحث - شأن هذا البائع - عن الأحداث التي تقع بين الناس. إنكم تقلدونها بطريقة ما، رغم أن لمحاكاتكم، بالتأكيد هدفا آخر غير إقناعي" (4).

يندرج هذا الموقف في سياق حوار طويل تمحورحول موضوع المحاكاة في المسرح، لأن الحسم فيه يعتبر قاعدة لحسم قضايا أخرى مرتبطة به في النص.

في هذا الإطار، يلاحظ وجود تضارب بين وجهتي نظر، تنطلق إحداهما من داخل المسرح ويعبر عنها الدراماتورج والممثل، وتصاغ الثانية من خارجه ويعبر عنها الفيلسوف. وسواء تعلق الأمر بهذا المنظور أو ذاك، فإن الملاحظ أن الخطاب الميتامسرحي يستند على قاعدة الاستدلال والحجاج والمنطق العقلاني، وذلك إما بالإحالة على مرجعية فلسفية كما هو الشأن لدى الفيلسوف الذي يستحضر رموزا كبافلوف وبيكون وماركس، وإما بالاعتماد على التجربة والممارسة، كما هو الشأن بالنسبة للدراماتورج والممثل.

إن هذا الحوار العقلاني حول قضايا مسرحية في نص "اقتناء النحاس"، أدخل هذا الأخير في سياق المسرح المفكر فيه، بشكل جعل مينيون يؤكد " أن الفن الدرامي المسرحي لبرتولد بريشت يعد الأكثر تأملية" (5)، وجعل أبيل يعلن أن "برتولد بريشت هو منطقي Logician الميتامسرح" (6).

ولعل ما يزكي هذين الموقفين هو أن بريشت قام بمسح شامل في النص لمختلف المبادئ والمفاهيم المسرحية الأساسية وجعلها موضوعا للتداول العقلاني بين شخوصه، من ذلك مفاهيم : المحاكاة، الطبيعية، الإيهام، الاندماج، الواقعية، الوظيفة الاجتماعية للمسرح، المسرح بين الإمتاع والتعليم، التغريب، المسرح في العصر العلمي وغيرها من القضايا الجزئية التي تضيء الشعرية الملحمية.

لهذا، فنص "اقتناء النحاس" ينبغي أن يوضع بموازاة التنظيرات البريشتية التي تضمنها مؤلفه "كتابات حول المسرح" الذي يوضح فيه، بشكل شمولي، الأسس الجمالية والإيديولوجية للشعرية الملحمية.

فإذا كان الميتامسرح في "اقتناء النحاس" يرسخ شعرية تنبذ الإيهام والاندماج وتقيم أسسا متينة لجماليات التغريب، فإن لهذا الميتامسرح وجها إيديولوجيا بارزا يركز على كون صورة العالم قائمة على التناقض وعدم الانسجام.

ويتمثل الدور الأساسي للمسرح في الكشف عن هذه التناقضات ودفع المتفرج إلى اتخاذ موقف منها والعمل على تغييرها.

(1) Philippe Ivernel - Pédagogie et politique chez Berthold Brecht (in) le Théâtre Moderne: Hommes et Tendances - C.N.R.S. 1968 - p.180.
(2) Jacques Nichet - La Critique du Théâtre au Théâtre - p.31.
(3) Berthold Brecht - l’Achat du cuivre: Entretiens à quatre sur une nouvelle manière de faire du théâtre - Edit - l’Arche 1970 - p.11/12.
(4) Ibid - p.17.
(5) Paul Louis Mignon - Le théâtre au  XX  Siècle - p.294.
(6) Lionel Abel - Metatheatre - p.111.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال