كتـب أنطـون تشيـخـوف Anton Tchékhov مسـرحيــة "النورس La Mouette" حوالي سنة 1896.
وقد أثارت هذه المسرحية العديد من التأويلات كان يصب أغلبها في ربط النص بالتيار الواقعي، وبالتالي بواقع روسيا خلال نهاية القرن التاسع عشر، ولاسيما منه الجانب المتعلق بوضعية الشريحة المثقفة التي تستحضر المسرحية بعضا من رموزها.
إن هذا التأويل وارد بالنسبة إلينا، لكن أدواته توجد - في نظرنا - في الجانب الذي أهملته الدراسات السابقة، ألا وهو المظهر الميتامسرحي في هذا العمل الدرامي، حيث يلاحظ أنه يشكل إجراء بارزا فيه، يتوسل بدعامات نصية ونوعية، ويتوخى وظيفية مزدوجة: جمالية وإيديولوجية في آن واحد.
لا نعثر في المسرحية على حكاية شاملة واحدة، وإنما على حكايات صغيرة متعددة ترتبط كل واحدة منها بمصير شخصية من شخوص المسرحية. ولعل أبرز حكاية تلقي بظلالها على عوالم النص هي حكاية تربليف Treplev الكاتب الشاب الذي أراد إبراز ذاته عن طريق الكتابة فاصطدم بواقع متحجر لا يؤمن بالجديد، وإنما يعمل على نبذه.
يبدو ذلك واضحا من خلال المسرحية التي كتبها وحاول تشخيصها، إلا أنها تعرضت للنقد والسخرية. إن تربليف مهووس إلى حد كبير بـ"الأشكال الجديدة ".
لذا، نجده يفصح عن ذلك صراحة: "تربليف: المطلوب أشكال جديدة، يجب خلقها وإذا لم توجد فالأحسن ألا يوجد شيء على الإطلاق" (1).
ولعل هوسه هذا هو الذي يتحكم في نظرته إلى المسرح المعاصر:
"تربليف: ...أعتقد أن المسرح المعاصر ليس سوى رتابة وحكم مسبق" (2).
وهذا ما يدفعه إلى توضيح رؤيته حول بعض القضايا الجوهرية التي يقوم عليها مفهوم المسرح كقضية المحاكاة، حيث نجده يناقشها في حواره مع نينا Nina:
"نينا: من الصعب التمثيل في مسرحيتك. الشخوص ليست كائنات حية.
تربليف: تقولين كائنات حية! ينبغي محاكاة الحياة ليس كما هي، وإنما كما نراها في الحلم" (3).
وعلى الرغم من ذلك، فإن المشهد الذي قدمه تربليف قد عرضه للسخرية، مما أثار انفعاله وجعله يقتنع بأن المسرح يعيش تحت وطأة "المونوبولية":
"تربليف: ...آسف، لقد نسيت أن كتابة المسرحيات واللعب على المسرح لا يسمح بهما سوى لقلة من المختارين. لقد كسرت المونوبول" (4).
إن اصطدام تجربة تربليف بهذا الواقع الثقافي المتحجر جعله يختار وضع حد لحياته باللجوء إلى الانتحار.
تفصح، إذن، حكاية هذا الكاتب الشاب عن موضوعات المسرحية التي تقول عنها مترجمة النص إلى الفرنسية: "موضوعة" النورس "هي الفن، الأدب، المسرح" (5).
ويبدو أن هذا يجسد اختيارا واعيا لدى تشيخوف الذي تحدث في إحدى رسائله عن "النورس" مؤكدا أنها تتضمن خطابا كثيرا عن الأدب.
لذا، يمكن القول إن المسرحية تحيل، موضوعاتيا، على ذاتها وذلك من خلال تتبع مسار كاتب شاب وإبراز تصوراته عن المسرح والعوائق التي واجهها لفرض هذه التصورات.
لقد هيأ تشيخوف لهذه الموضوعاتية الذاتية إجراءين ميتامسرحيين يتمثل أولهما في تقنية المسرح داخل المسرح، والثاني في اللجوء إلى التناص.
فالمشهد المسرحي لتربليف يشكل بنية للمضاعفة المسرحية في "النورس" استثمر كبنية مدمجة في البنية الكبرى للمسرحية، وكموضوع للحوار والنقاش والتداول بين مختلف الشخوص التي اتخذته ذريعة لمطارحة قضايا أدبية وفنية في النص.
كما أن تشيخوف استعمله كوسيلة لإبراز البعد النقدي في خطابه الميتامسرحي، وذلك بتحويله هو وكاتبه تربليف إلى موضوع للمحاكاة الساخرة.
وبالنظر إلى طبيعة العلاقة بين تربليف وأمه أركدينا Arkadina المنشغلة بالأديب تريجورين Trigorine، فإن المسرحية تلجأ إلى التناص، وذلك عن طريق تضمين مقاطع حوارية من "هاملت" لشكسبير أبطالها هاملت وأمه الخادعة لأبيه:
"أركدينا: (مستعرضة "هاملت") "يا بني لقد حولت بص-ري إلى داخل روحي ورأيت فيها جروحا دامية، مميتة. لقد فقد كل شيء".
تربليف: (مستعرضا "هاملت") "لكن لم انسقت مع الرذيلة، وبحثت عن الحب في عمق الجريمة؟" (6).
إن استحضار هذه العلاقة يضفي على المسرحية طابع المأساة، وذلك من خلال الكشف عن نوع من التوازي في المعاناة بين تربليف الكاتب الشاب وهاملت البطل التراجيدي الشكسبيري.
فإذا كان هذا البعد التناصي يجعل "النورس" تنفتح على المأساة، فإن ما يثير حقا هو أن هذا التوجه لا ينسجم وطبيعة الاختيار النوعي الذي أعلن عنه تشيخوف بخصوص مسرحيته حين وسمها بـ"كوميديا" من أربعة فصول.
ولقد انتبه بعض الدارسين إلى هذا الالتباس، حيث أكد أحدهم أن "النورس" أثارت "الكثير من الجدل حول طبيعتها ككوميديا وسبب هذا أنها تشتمل على عناصر لمأساة حديثة عن الإنسان البسيط" (7).
إن وضعية تربليف توحي، بالفعل، بجو المأساة، مادام الأمر يتعلق بمثقف شاب، غادر الجامعة، لا يملك شهرة ولا مالا ويريد فرض ذاته في مجتمع تخضع ثقافته لنوع من الاحتكار، مما يؤدي به إلى الانتحار.
لكن الأجواء الساخرة التي خلقتها المسرحية بعد تتبع مشهد تربليف، أضفت عليها طابعا كوميديا.
وإذا كان هذا التوجه الأخير يخدم الوظيفة النقدية من الميتامسرح في "النورس"، فإن الاختيار الأول ينسجم وشعرية المحاكاة الكاملة (8) التي تسند هذا الخطاب الميتامسرحي. لهذا، يمكن القول إن البعدين التراجيدي والكوميدي في مسرحية "النورس" لا يتناقضان، وإنما يلتحمان لخلق شعرية واقعية يقوم عليها الخطاب الميتامسرحي التشيخوفي.
وانسجاما مع مكونات هذه الشعرية، يلاحظ أن الميتامسرح في "النورس" يحقق ثلاث وظائف أساسية هي: الوظيفة السيرذاتية، الوظيفة النقدية ثم الوظيفة الإيديولوجية.
فبخصوص الوظيفة الأولى، تؤكد إلزا تريولي Elsa Triolet أن "النورس" هي "الأكثر سيرذاتية من بين مسرحيات تشيخوف، حيث بإمكاننا أن نتعرف بسهولة وأن نجد انشغالات تشيخوف فيها، وأن نجد أيضا أشخاصا من محيطه" (9).
إن استحضار المرجع الواقعي من خلال الوقائع والشخوص ينسجم وطبيعة النزوع الواقعي في المسرحية، ويذكرنا بموليير الذي ضمن مرتجلته معطيات من سيرته الثقافية في مواجهة خصومه.
إن هذا يجعلنا نكتشف أن ما يسمى بالسيرة الذاتية في تاريخ الأنواع الأدبية يمكن أن يصاغ صياغة مسرحية مثلما يصاغ عن طريق السرد.
ولربما سيكون ممكنا الحديث عن نوع جديد نسميه "السيرة الذاتية المسرحية" التي تعتمد على الميتامسرح كإجراء أساسي للتشخيص.
وإذا كانت "النورس" تتضمن - من الناحية النقدية - نوعا من المحاكاة الساخرة؛ فإن المستهدف فيها ليس هو تربليف باعتباره شخصية من ورق - حسب تعبير بارث -، وإنما المستهدف هو ما يحيل عليه عمله المسرحي، أي التيار الأدبي الذي كتبت" النورس" أساسا من أجل اتخاذ موقف نقدي منه.
في هذا السياق تؤكد دارسة أمريكية أن "النورس تسعتعمل كثيرا الإمكانات النقدية للميتادراما، حيث تمنحنا، ليس فقط المسرحية الداخلية بمؤلفها وأبطالها وإنما بخطابها أيضا. فعلى الرغم من كون مسرحية تربليف لا تسير بشكل جيد، إلا أن تشيخوف استعملها لكي يكشف عيوب وعناصر قوة الدراما الطبيعية والرومانسية على حد سواء" (10).
إن "النورس" تؤسس، من هذه الزاوية، شعرية خاصة على أنقاض شعريات أخرى، تنبني على مفهوم جديد للمحاكاة ينزع نحو الكمال دون نقل الواقع حرفيا كما هو الشأن في الاتجاه الطبيعي الذي يستند على خلفية "فوتوغرافية"، ودون ركوب الأحلام والاستيهامات بشكل يتجاوز حدود البساطة والحياة العادية كما هو الشأن في الاتجاه الرومانسي.
يمكن القول، إذن، إن "محاكاة تشيخوف محاكاة أرسطية بالغة، غير أنها انتقلت من الحصيلة التقليدية إلى حصيلة جديدة وهي الحياة العادية البسيطة غير المعقدة والشخصيات التي تعبر عن عواطف عادية ليست كعواطف الأبطال السامية المتعالية"(11).
إن تشيخوف لا يكتفي برسم الملامح الأدبية لشعريته المسرحية في "النورس"، بل يتجاوز ذلك نحو الإفصاح عن الوجه الإيديولوجي لهذه الشعرية.
ويتم ذلك من خلال التأكيد على أن الإشكالية لا تكمن في تقابل شكل جديد مع آخر قديم، وهي القناعة التي عبر عنها تربليف نفسه عند اصطدامه بالواقع الثقافي القائم الذي يعكس، في الحقيقة، واقعا إيديولوجيا:
"تربليف: لقد تكلمت كثيرا عن أشكال جديدة، وها أنذا أحس بنفسي أنزلق نحو المتواضع عليه [...] نعم لقد أصبحت مقتنعا شيئا فشيئا بأن الأمر لا يتعلق بأشكال قديمة أو جديدة، وإنما يتعلق ببساطة بما ينبع من قلبك دون التفكير في هذا الشكل أوذاك" (12).
إن تربليف يجسد، في الواقع، رمزا من رموز الطبقة المثقفة الروسية، شأنه شأن جريجورين، كما أن كل واحد منهما يشكل وجها داخل بنية ثقافية وإيديولوجية يتصارع فيها القديم والجديد.
وإذا كان "صراع الأشكال" ترجمة أدبية لصراع أشمل، فإن ما يؤكده تشيخوف بمسرحته لهذا الصراع، هو أن الواقع هو المنطلق بغض النظر عن طريقة تشكيله وتشخيصه، مادام حضوره في حد ذاته يفرض رؤية محددة تسمح بالإمساك بالبسيط والعادي فيه.
من ثم، يمكن القول إن واقعية تشيخوف التي تنهض في المسرحية على أنقاض الرومانسية والطبيعية معا، ليست توجها أدبيا وحسب، وإنما هي توجه إيديولوجي أيضا.
(1) La Mouette (in) - Anton Tchekhov - Théâtre (Platonov - Ivanov - la Mouette ) - Traduit et commenté par Elsa Triolet - E.F.R . de poche 1954/1962 - p.348.
(2) Ibid - p.347.
(3) Ibid - p.351.
(4) Ibid - p.356.
(5) Elsa Triolet (in) Anton Tchékhov - op-cit - p.337.
(6) La Mouette - p.353.
(7) مصطفى منصور ـ الكوميديا في مسرحيات " تشيخوف " النورس نموذجا ـ مجلة المسرح ـ العدد 52 ـ يوليو 1993 ص.25.
(8) Pierre Chabert - Le corps comme matériau dans la représentation théâtrale - p.302.
(9) Elsa Triolet (in) Anton Tchékhov - Théâtre - p.338.
(10) Lurana Donnels O’ Malley - palys within Realistic plays - p.46.
(11) فوزي فهمي احمد ـ المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986 ـ ص.136.
(12) La Mouette - p.409/410.
التسميات
أنواع الميتامسرح