ميتامسرح المفارقات: "ست شخصيات تبحث عن مـؤلف" لبيرانديلو.. تحويل الميتامسرح إلى مبحث إبداعي في المعرفة والوجود في آن واحد

تعد مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف Six personnages en quête d’ auteur "(1921) العمل المسرحي الأول ضمن ثلاثية خصصها الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديلو Luigi Pirandello لتقنية المسرح داخل المسرح.

وتتضمن إلى جانب هذا النص مسرحيتي: "هكذا... أو كذلك Comme ci ... ou comme ça  (1924)، ثم " الليلة نرتجل Ce soir on improvise " (1930).

ونظرا للأهمية التي تحظى بها مسرحية "ست شخصيات" في مسار الكاتب، فقد خصها بتقديم بين فيه كيف تشكلت فكرة المسرحية وضمن أي سياق نظري وجمالي ينبغي وضعها.

ينطلق بيرانديلو من اعتبار سر الخلق الفني شبيها بالولادة الطبيعية، ذلك أن الفنان يستقبل رشيمات germes عديدة في الحياة دون أن يدري كيف أعطى أحدها مولودا ولا كيف خرج هذا المولود إلى الوجود.

ولعل هذا ما وقع لبيرانديلو، فعلا، مع الشخصيات الست التي انبثقت من متخيله حية وقررت أن تخرج إلى الوجود. لهذا، فلا عجب أن نجده يتحدث بصيغة المفارقة عن "الواقع المتخيل للشخصيات الست"(1).

علاوة على هذا،  يؤكد بيرانديلو أن صياغة موقف نقدي أو نظري ما، أو أي تصور مجرد قبل العمل الفني أو بعده، عمل لا جدوى منه.

ذلك أن هذه القضايا تكون "حية ليس لأنها تقال بواسطة النقد، وإنما لكونها موجهة للتعبير عن نفسها بواسطة الفن؛ مادامت، إذن، غير محددة عن طريق الفكر الخالص الذي يخفض حرارتها ويثبتها ويقتلها بالتركيز، بطبيعة الحال، على صياغتها كقضايا، وإنما لأنها موجهة للعرض بواسطة الفن في إطار شكل يعد البنية والسبب نفسه لحياتها الأبدية "(2).

إن هذه الإشارات تشكل - في نظرنا - الخلفية الفكرية والجمالية للميتامسرح البيرانديلي، كما تجسده مسرحية "ست شخصيات".
ويمكن تلخيصها في عنصرين أساسيين هما:
1- الواقع المتخيل La réalité imaginaire.
2- البنينة Structuration الفنية لقضايا النقد والنظرية.

ينطوي العنصر الأول على مفارقة، لكنه يجد، مع ذلك، ما يبرره نصيا من خلال التوسل بتقنية "اللعب داخل اللعب" التي عرف بيرانديلو باستعماله لها بنوع من المبالغة في أعماله.

أما العنصر الثاني، فيشكل قناعة خاصة لديه تتمثل في كون العمل المسرحي هو وحده الإطار الصحيح لصياغة رؤية حول المسرح والواقع في آن واحد.

إن هذا السند المزدوج للميتامسرح البيرانديلي هو الذي يجعلنا نميل إلى الموقف النقدي الذي اتخذه أبيل إزاء من يقول "بأن بيرانديلو هو عالم ابستمولوجيا Epistémologist الميتامسرح وليس عالم وجوده Ontologist "(3)، وذلك لأن بيرانديلو جعل من الميتامسرح في "ست شخصيات" مبحثا إبداعيا في المعرفة والوجود في آن واحد.

ولعل التأمل  في البنيات الحكائية والموضوعاتية والنوعية للمسرحية من شأنه أن يدعم هذا التأويل ويجعلنا ننظر إلى الميتامسرح البيرانديلي ليس باعتباره تقنية أو شكلا فنيا وحسب، وإنما باعتباره رؤية للعالم تم التعبير عنها عبر شعرية ضدأرسطية تقوم على قلب مفهوم المحاكاة.

تجمع مسرحية "ست شخصيات" بين مساري مجموعتين من الشخصيات: الأولى عبارة عن عائلة مكونة من ست شخصيات جاءت عند مدير فرقة مسرحية تخبره بأنها تحمل "دراما" وتبحث عن مؤلف.

ومادام المؤلف الذي تبحث عنه غير موجود، فإن "الدراما لم تعرض، وما سوف يعرض، بالعكس، هو كوميديا هذه المحاولة الفاشلة بكل ما فيها من مأساوي، وذلك من جراء الرفض الذي لقيته الشخصيات السـت" (4).
أما المجموعة الثانية، فهي عناصر الفرقة المسرحية المنهمكة في تداريبها بقيادة مديرها.

يحاول الحدث في المسرحية، إذن، أن يعقد لقاء مستحيلا بين عالمين:
- أحدهما متخيل هو عالم الفرقة التي تؤدي مسرحيتها.
- والثاني واقعي هو عالم العائلة التي تصر على أداء دراما حياتها بنفسها لأنها مقتنعة بأن لا أحد بإمكانه تمثيل حقيقة هذه الدراما.

لذا، فالأب - رغم إعجابه بأداء الفرقة لمشهد من دراما العائلة - يرى ذلك مخالفا للحقيقة:  
"الأب: صحيح، الممثلون يؤدون أدوارنا بشكل جيد. لكن بالنسبة إلينا، هذا شيء آخر مخالف يريد أن يكون مثلنا لكنه ليس كذلك"(5).

إن هذا الموقف الذي عبر عنه الأب شكل موضوع خلاف بينه وبين المدير وبالتالي قاعدة لحسم تصورات مختلفة حول علاقة الخيال بالواقع، والطبيعة بالفن.

بل إن هذا التقابل في المواقف اتخذ في المسرحية كذريعة لإبراز التقابل بين شعريتين: إحداهما امتداد للأرسطية والثانية انقلاب عليها.

في هذا السياق، نلاحظ أن مسرحية "ست شخصيات" تعيد النظر في أهم المبادئ التي تقوم عليها الشعرية الأرسطية بما فيها: مفهوم الاحتمال والضرورة، المحاكاة والإيهام.

فالأب يؤكد أن البحث عن المحتمل ضرب من الجنون. لذا، يخاطب المدير قائلا:
"الأب: أقول يا سيدي إن الجنون هو البحث عن الاحتمال بحجة الإيهام بالحقيقة.
وهذا  الجنون، اسمح لي أن أقول لك إنه المبرر الوحيد لوجود مهنتك"(6).

ولكي يبين له أهمية الخلفية التي يستند عليها وجوده كشخصية حقيقية حية منبثقة من خيال المؤلف، عمل الأب على توضيح العلاقة بين المتخيل والطبيعة:
"الأب: ...لا أحد يمكنه أن يعرف أحسن منك أن الطبيعة تستعمل الخيال الإنساني من أجل إتمام عملية خلقها في مستوى أكثر سموا"(7).

نفهم من هذا القول أن المتخيل، وبالتالي الفن، يمكن أن يصبح نموذجا تحاكيه الطبيعة. إن بيرانديلو وجه - من خلال شخصية الأب - ضربة إلى المحاكاة الأرسطية وذلك بجعل الفن أصلا ونموذجا للمحاكاة عوض الطبيعة.

لذا، فلا عجب أن نجد من يؤكد أن "الهجوم الذي شنه بيرانديلو ضد الفن باعتباره محاكاة، جد جذري بحيث دمر الحياة في الوقت نفسه" (8).

في إطار هذه الشعرية الضد - محاكاتيـة Anti - mimétique، يقيم بيرانديلـو تقابلا آخر بين الحقيقة واللعب.
ففي الوقت الذي تركز فيه الربيبة على "الدراما الحقيقية Drame Véritable"، يحاول المدير إقناعها بأن الأمر يتعلق بمسرح، ولا يمكن أن يؤدى فيه إلا ما هو قابل للعب Jouable.
إلا أن المثير في المسرحية هو عدم وجود حد فاصل بين عالمي الحقيقة واللعب.

إنهما يتداخلان بشكل جعل التقني Machiniste نفسه يختلط عليه الأمر فيقوم بإغلاق ستار المسرح في الوقت الذي طلب المدير ذلك معلنا انتهاء مشهد من المسرحية المضاعفة.

ضمن هذا التداخل بين عالمي الحقيقة والمسرح تطرح مسألة الإيهام.
 فإذا كان المدير يحاول توضيح القصد من الإيهام بالواقع من خلال تمثيله، فإن الأب لا يتردد في إعلان موقفه الصريح منه قائلا:
"الأب: الإيهام؟ أرجوك لا تتحدث عن الإيهام! لا تستعمل هذه الكلمة التي هي قاسية بالنسبة إلينا بالخصوص" (9).

إن الشعرية التي تبلورها مسرحية "ست شخصيات" تقوم، إذن، على قلب مفهوم المحاكاة، وضرب الاحتمال والإيهام، والمزج بين الحقيقة واللعب.

وإذا كان الأب قد أكد أن هذه الشعرية تجد سندها الفلسفي في النسبية، فإن المدير قد عبر عن امتعاضه من تحويل المسرح إلى نوع من التفلسف:
"المدير: لن أترككم تخطبون إلى ما لا نهاية ! إن الدراما فعل قبل كل شيء؛ فعل وليس فلسفة" (10).

لكن بيرانديلو - الذي كتب المسرحية أساسا من أجل بلورة شعرية مفارقة - لا يهمه الفعل الدرامي إلا من حيث كونه أداة لصياغة تصور معرفي ووجودي عن الإنسان والحياة في عالم نسبي، كل شيء فيه قابل للانقلاب والتحول.

ولعل هذا الهاجس الفلسفي المتحكم في "ست شخصيات" هو الذي دفع برنار دورت إلى التأكيد "أن العنصر الأساسي في البيرانديلية ليس هو التجديدات التقنية الخالصة [...] وإنما هو إدخال مسافة داخل العمل بين الدراما بالمعنى الحقيقي للكلمة أي الدراما بمفهومها الطبيعي، وبين العرض [...] لذا، فإن ما يعرضه بيرانديلو ليس هو الدراما نفسها، وإنما هذه الدراما مفكر فيها داخل وعي شخصية ما. إن مسرحه تراجيديا (أو كوميديا) للتفكير" (11).

ويبدو أن هذا التحليل يسير بموازاة مع طبيعة المسرح البيرانديلي نفسه باعتباره مسرحا مفكرا ومفكرا فيه من جهة، ومع ما عبر عنه بيرانديلو في تنظيراته عندما تحدث عن أهمية الصياغة الفنية للقضايا النظرية والنقدية  من جهة أخرى.

وإذا كان بيرانديلو قد اعتمد في صياغة شعريته الجديدة ذات التوجه النسبي على المضاعفة المسرحية والموضوعاتية الذاتية، فإن القالب النوعي الذي يستلزمه تصور أصيل ومتميز لابد أن يكون وفيا لهذه الروح النسبية.

فما دمنا أمام " فرجة - لم نرها من قبل - تتعلق بالسيرورة الإبداعية في إطار الفعل" (12)، فإن هذه السيرورة قابلة لأن تحول، في سياق هذا الفعل، إما نحو الكوميدي أو التراجيدي.

فالعائلة أتت كي تقدم "دراما" حياتها؛ إلا أن مسار المسرحية سرعان ما انقلب في اتجاه الكوميديا، ويتجلى ذلك في البحث غير المجدي عن المؤلف.

لكن هذا البحث العبثي نفسه سوف يحول وضعية العائلة إلى تراجيديا.
إن هذه الدينامية والمرونة النوعية التي تفتح المجال للحدث في المسرحية كي يتخذ وجهات متناقضة بشكل مستمر، تترجم - بشكل صريح - المنظور النسبي الذي يسند شعرية النص ككل.

فلا وجود لحدود فاصلة ونهائية بين الكوميديا والتراجيديا والدراما.
مما يدفع إلى القول إن مسرحية "ست شخصيات" لاتبلور شعرية للنص المسرحي وحسب، وإنما تتجاوز ذلك لصياغة شعرية جديدة للأنواع الدرامية، نعتقد أن أدق وصف لها هو: شعرية المفارقات التي تفجر الكوميدي في قلب التراجيديا، وتولد التراجيدي في عمق الكوميديا.

يستخلص من هذا التحليل أن الميتامسرح في "ست شخصيات" يضع - من الناحية النقدية- الشكل الدرامي نفسه موضع تساؤل، كما يعمل - من الزاوية النظرية - على بلورة شعرية تنهض على أساس المفارقة وتنبذ المحاكاة على الطريقة الأرسطية.

ويلاحظ أن هذين المظهرين الجماليين يصبان في الاتجاه الذي يجعل منهما "كلا إيديولوجيا Un Tout Idéologique يريد أن يفهم باعتبـاره كـذلك بالنسبـة للمسرح البرجوازي المؤسس" (13).

لذا، فإن الأمر لا يتعلق كما - ذهب إلى ذلك  بول لويس مينيون Paul Louis Mignon- بـ "عودة مبدع إلى فنه لإيجاد علاج لقلقه النفسي" (14).

فهذا البعد الذاتي للميتامسرح - حتى إن افترضنا أنه صحيح - ينصهر بشكل عميق في البعد الموضوعي الذي يجعل من مسرحية "ست شخصيات " فتحا جديدا في تاريخ الإبداع المسرحي الغربي، ليس على مستوى جمالية الشكل الدرامي وحسب، وإنما على مستوى "إيديولوجيا الشكل" أيضا، والتي تؤكد على نسبية الكائن وغياب التناسق والانسجام في الحياة وغياب المنطق، عكس ما يدعيه المسرح البرجوازي.

(1) Luigi Pirandello - Ecrits sur le Théâtre et la littérature - Traduction de l’Italien et Introduction  par Georges Piroué - Edit Denoël 1968 - p.77.
(2) Ibid - p.45.
(3) Lionel Abel - Metatheatre - p.111.
(4) Luigi Pirandello - Ecrits sur le théâtre et la littérature - p.69.
(5) Luigi Pirandello - Six personnages en quête d’Auteur (suivi de) la volupté de l’Honneur - Version Française de Benjamin Crémieux - Edit Gallimard 1950 - p.73.
(6) Ibid - p.13.
(7) Ibid - p.15.
(8) Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.66.
(9) Luigi Pirandello - Six personnages en quête d’Auteur - p.82.
(10) Ibid - p.91.
(11) Bernard Dort - Théâtres (essais) - p.84/85.
(12) Georges Piroué - Présentation (in) Luigi Pirandello - Ecrits sur le théâtre et la littérature - p.6.
(13) Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.62.
(14)  Paul Louis Mignon - Le Théâtre au  XX Siècle - Edit Gallimard 1986 - p.247.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال