الميتامسرح في المسرح العربي.. مساهمة الممارسة الميتامسرحية في تخصيب وتطوير الكتابة الدرامية العربية

إذا كان النقد المسرحي الغربي لم يبلور مصطلح "الميتامسرح" إلا خلال السنوات الأولى للعقد السادس من هذا القرن، وذلك قصد وصف ظاهرة تعود إرهاصاتها الأولى إلى القرن الخامس قبل الميلاد؛ فإن النقد المسرحي العربي لم يشرع في تداول المصطلح إلا خلال هذا العقد الأخير من القرن العشرين، وذلك عبر إشارات جزئية أولية يعود فضل إيرادها إلى كل من الدكتور حسن المنيعي وعلي عواد.

لقد وقف المنيعي على تجليات الممارسة الميتامسرحية من خلال نص درامي لعبد الكريم برشيد هو "عطيل والخيل والبارود"(1)، مبرزا اعتماد اللعبة المسرحية فيه على تكسير الخط الدرامي وعلى تقنية المسرح داخل المسرحن وذلك في ضوء ما بلوره مانفريد شميلنغ في كتابه "الميتامسرح والتناص".

أما علي عواد، فقد خص الميتامسرح بفصل ضمن كتابه الذي صدر حديثا تحت عنوان "غواية المتخيل المسرحي: مقاربات لشعرية النص والعرض والنقد".

وقد وسم الفصل المشار إليه ب" شعرية ما وراء المسرح: غواية المتخيل المسرحي لذاته"، أثار في بدايته إشكالية الترجمة العربية للمصطلح قائلا: "يندرج مصطلح (ما وراء المسرح) ضمن المصطلحات النقدية الإشكالية على المستوى الدلالي وعلى مستوى الترجمة، فهو يستخدم مقابلا للمصطلح الأجنبي (Metatheatre) على قياس ما وراء الطبيعة (Metaphesicse) الذي استقر تداوله في اللغة العربية.
وتعزى الإشكالية إلى السابقة اللغوية (Meta) التي تعد لبسا كبيرا عند ترجمتها إلى اللغة العربية.

ولذلك يمكننا أن نضع مقابلات عديدة لمصطلح الـ(Metatheatre)، إضافة إلى (ما وراء المسرح)، كالمسرح الواصف، والمسرح الشارح، والمسرح الممسرح، والمسرح الانعكاسي، على غرار ما وضع من مقابلات لمصطلح الـ(Metalanguage) ما وراء اللغة، والـ(Metafiction) ما وراء الرواية، والـ(Metacriticism) ما وراء النقد، أو نقد النقد.

وبإزاء عدم استقراء المقابل العربي للمصطلح، فإنني سأسمح لنفسي باستخدام لفظة (ما وراء المسرح) حينا و(المسرح الانعكاسي) حينا آخر" (2).

مما لاشك فيه أن الإشكال المصطلحي يكتسي أهمية بالغة في سياق النقد المسرحي العربي.
لذا، فإن الاجتهادات التي قدمها هنا علي عواد، وحاول من خلالها إيجاد ترجمة مناسبة للميتامسرح تستحق عناية كبيرة، لاسيما وأن الصفات التي رصدها لهذا النمط من الممارسة المسرحية بما فيها المسرح الواصف، والشارح والممسرح والانعكاسي، تعد كلها من وظائفه الأساسية التي يقوم بها فعليا.

إلا أن الالتباسات التي تحيط بهذه الأوصاف نفسها لا سيما إذا تم الوقوف عند دلالتها اللغوية، يجعلنا نميل إلى الحفاظ على المصطلح بسابقته اللغوية التي تميزه أي "ميتامسرح".

ولا نجد ضيرا في ذلك، مادام النقد العربي الحديث قد تعود، الآن، على تداول هذا النوع من المصطلحات، والنقد المسرحي ليس استثناء.

بل إن هذا الاستعمال يعفينا من الوقوع في سوء التفاهم الذي تولده الترجمات العديدة للمصطلح الواحد في سياقنا العربي.

وإذا تجاوزنا هذا الجانب المصطلحي، سنلاحظ أن علي عواد حاول تقديم تعريف للميتامسرح مع إبراز أسس شعريته وألوانه المختلفة التي حددها في لونين هما: المسرحية التي تتمرأى بشكل نرجسي في ذاتها، والمسرحية التي تؤكد اللعبة المسرحية بوصفها لعبة وتكسر الإيهام.
بالإضافة إلى هذا حاول العودة، بنوع من الاختزال، إلى الأصول الغربية القديمة والحديثة للميتامسرح.

إلا أن ما يلاحظ عليه هو اعتماده، بشكل كلي، على تحديدات نهاد صليحة في كتابها "أمسيات مسرحية"، مع العلم أن التعريفات التي يشير إليها لها أصولها في النقد الغربي التي يبدو أنه يجهلها، كما يجهل أن نهاد صليحة نفسها لم تأت بجديد بقدر ما عملت هي كذلك على تحوير بعض التعريفات التي يقدمها باتريس بافيس في معجمه المسرحي.

إذا كان علي عواد لا يشير إلى المرجعيات الأصلية للميتامسرح - مما يجعل خطابه أقل مصداقية من الناحية العلمية بالنسبة إلينا - فإن ما يضفي على إشارات المنيعي أهمية بالغة - على الرغم من اقتصارها على نموذج مسرحي واحد - هو تلك الإحالات الدقيقة التي تنم  عن معرفة رصينة بأصول المصطلح المسرحي الغربي، ومنها - على وجه الخصوص - الإحالة التي يشير فيها إلى ضرورة العودة إلى متن نظري مؤسس في هذا السياق هو كتاب شميلنغ المشار إليه سلفا.

قد يفهم من هذه الوقفة القصيرة مع النقد المسرحي العربي، أن حداثة اهتمامه بالميتامسرح تعني أن الظاهرة نفسها طارئة على المسرح العربي. إلا أن الحقيقة هي أن التفاوت الحاصل في المسرح الغربي بين بروز الظاهرة وإيجاد المصطلح المعبر عنها، هو نفس ما نجده أيضا في المسرح العربي.

وإذا كانت المحاكاة واردة فيما يتعلق بالمصطلح وما ولده من خطاب واصف، فإن شروط نشأة الظاهرة تفصح، بالنسبة للنص المسرحي العربي، عن وجود تفاعلات تاريخية وثقافية داخلية هيأت هذا النص لتوليد خطاب ميتامسرحي، بعض آلياته انحدرت من عامل المثاقفة المسرحية، وبعضها الآخر تم استخلاصه من مقومات تعبيرية ذاتية تمتد جذورها في التراث العربي.

لقد عاش المسرح العربي قلق الكينونة ومخاض الوجود، ونشأ في واقع إشكالي تتجاذبه تيارات ونوازع وأفكار متناقضة.

لذا، من الطبيعي أن يفرز بعض "الأشكال التأملية" داخل الممارسة المسرحية، لاسيما وأن هذه الأشكال تسمح للمبدع المسرحي، داخل واقع تحيط به أسيجة متعددة، بطرح هواجسه الفنية وأسئلته الوجودية وتصوراته الفكرية ومواقفه السياسية من داخل ممارسته الإبداعية نفسها. من ثم، يمكننا أن نقر بوجود حتمية ثقافية وتاريخية رسخت هذا التوجه الميتامسرحي في النص العربي، ونحتت له بنيات ووظائف تتقاطع أحيانا مع مظاهره في المسرح الغربي، وتختلف عنها أحيانا أخرى.

قد يعتقد البعض أن الميتامسرح ارتبط في سياقنا العربي بالمد الحداثي الذي حمل النص المسرحي العربي إلى عوالم النقلات الفنية الحديثة كالبريشتية والبيرانديلية والعبثية وغيرها.

فإذا كان هذا صحيحا من جانب، فإن ما أفرزته التجارب المسرحية العربية منذ بداياتها الأولى مع رواد المسرح العربي كمارون النقاش ويعقوب صنوع وغيرهما، يؤكد ظهور ملامح الميتامسرح مع الولادة الأولى للمسرح العربي.
وهو أمر غير مستغرب مادام يعكس، بوضوح، الواقع الإشكالي والنشأة المأزومة لهذا المسرح.

لقد عاش جيل الرواد نوعا من التجاذب بين هاجسين مؤرقين: أحدهما هو الإعلان عن ميلاد خطاب جديد داخل الثقافة العربية، والثاني هو البحث عن مشروعية ومصداقية لهذا الخطاب من خلال ترسيخه في وجدان متلق عربي نشأ داخل ثقافة الشعر.

لذا، نلاحظ أن كتابات الرواد بقدر ما تحاول تقديم حكايات مسرحية أكثر قربا وملاءمة لأفق انتظار المتلقي العربي، بقدر ما تتخذ ذلك مطية لتوضيح انشغال المسرحيين العرب بالقضايا المتصلة بالإبداع المسرحي نفسه من جهة، وبالواقع العربي من جهة ثانية.

ويتجلى كل ذلك من خلال استعمال إجراءات ميتامسرحية - واعية أو لا واعية - هاجسها الأساسي آنئذ هو جعل المسرح، باعتباره خطابا جديدا، خطابا مقبولا داخل فضاء الثقافة العربية.

لقد ارتبط الميتامسرح العربي، إذن، في مظهره الأول بإشكالية كبيرة هي إشكالية التأسيس والتأصيل.
ومن المعلوم (أن ظهور المسرح كفعالية ثقافية حضارية في الثقافة العربية في أربعينات القرن الماضي، جعله يمثل "سبة تاريخية" كإنتاج أبدعه الاستعمار القاهر للذات العربية، لهذا ستتحرك حملة التشكيك في شرعيته وانتمائه "للأصالة الحضارية العربية") (3).

إن أصداء هذا التشكيك سوف تتردد داخل الإبداع المسرحي نفسه إلى حد دفع يعقوب صنوع، مثلا، إلى تحويل بعض أعماله إلى سيرة ذاتية مسرحية تحكي معاناته في سبيل ترسيخ دعائم مسرح عربي في مصر.

ويبدو ذلك واضحا في مسرحيته المثيرة "موليير مصر وما يقاسيه".
فهذه المسرحية وغيرها تثبت أن للميتامسرح العربي مظهرا تأصيليا يعكس من جهة امتدادات الواقع العربي داخل الظاهرة المسرحية، كما يجسد من جهة أخرى الصيغ الجمالية لهذه الامتدادات التي تتوسل بإجراءات ميتامسرحية سنحدد بنياتها ووظائفها من خلال تحليل مجموعة من النماذج المسرحية العربية.

المظهر الثاني للميتامسرح العربي جسده انخراط الكتابة المسرحية في دوامـة التجريب. لقد تحكمت استراتيجية محددة في توجيه هذه الكتابة نحو ركوب المد الحداثي، تأرجحت بين الرغبة في تلقيح النص العربي بنقلات فنية غربية، وبين مد الجسور بين هذا النص وبين تراثنا العربي.

لقد وجه هذا التأرجح المسرح العربي نحو ثلاثة إطارات  ميتامسرحية أساسية: تناصي، ارتجالي وحكائي، كان هدفها الأسمى هو محاولة بلورة آفاق شعريات مسرحية واضحة المعالم والأبعاد.

انطلاقا من هذين المظهرين، نرى ضرورة التمييز داخل الميتامسرح العربي بين ما نسميه بالميتامسرح التأصيلي، والميتامسرح التجريبي (4).

وذلك في أفق الإجابة على أسئلة عديدة تطرح نفسها علينا ومنها:
أية علاقة يقيمها النص العربي مع شعرية الميتامسرح؟
كيف تمت بنينة الميتامسرح داخل هذا النص؟
ماهي الوظائف التي أسندت إليه؟
ماهي الآفاق الإبداعية والنقدية التي فتحها الميتامسرح للنص العربي؟
إلى أي حد ساهمت الممارسة الميتامسرحية في تخصيب وتطوير الكتابة الدرامية العربية ؟
وهل يمكن الحديث عن إضافات نظرية بلورتها هذه الكتابة في اتجاه تطوير شعرية الميتامسرح؟

هذه الأسئلة وغيرها هي ما سنحاول الإجابة عليه من خلال تحليل مجموعة من النماذج المسرحية العربية التي يندرج بعضها ضمن ما سميناه بالميتامسرح التأصيلي، في حين يندرج البعض الآخر ضمن ما وسمناه بالميتامسرح التجريبي.

(1) انظر الدكتور حسن المنيعي ـ التأصيل في المسرح العربي من خلال حركية النص (النص الاحتفالي نموذجا) (في) المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة ـ منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ ظهر المهراز ـ فاس 1994.

(2) عواد علي ـ غواية المتخيل المسرحي : مقاربات لشعرية النص والعرض والنقد ـ المركز الثقافي العربي 1997 ـ ص.41.

(3) محمد مسكين ـ المسرح العربي الحديث بين ضياع الهوية وغياب الرؤية التاريخية ـ مجلة الوحدة ـ عدد خاص عن "التأصيل والتحديث في المسرح العربي" ـ العدد 94/95 ـ يوليو/ أغسطس 1992 ـ ص.9.

(4) لا ننوي تقديم تفاصيل حول مصطلحي التأصيل والتجريب، لأن الحديث عنهما غطى مساحة كبيرة داخل الخطاب النقدي العربي.

ولكن لابأس أن نوضح أن فهمنا الخاص للتأصيل لا يربطه بالضرورة ببروز المكون التراثي في المسرح، وإنما يعتبره عملية تعامل واع مع المنجز عالميا في مجال المسرح ومحاولة غرسه وترسيخه في التربة العربية سواء اتخذ ذلك صيغة تراثية أو غير تراثية.

أما التجريب فنفهمه باعتباره عملية انفتاح فكري وفني على نقلات متعددة المشارب ومختلفة الجذور، واتخاذها قاعدة لبلورة تجربة إبداعية خاصة؛ ليس من الضروري أن تتوج بالنجاح أو تجد مكانها في سياق ما باعتبارها "مسرحا مؤسسا".
لهذا، فإن الفصل بين الميتامسرح التأصيلي والميتامسرح التجريبي هو، في الواقع، فصل إجرائي لا غير.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال