من دهشة الطفل إلى ذهنية الفيلسوف في مجموعة (قصائد خضرٍ ويابسات) لزاهر عبدالرحمن عثمان. الطابع العقلي المجرد. التعبير الرمزي

من دهشة الطفل إلى ذهنية الفيلسوف في مجموعة (قصائد خضرٍ ويابسات) لزاهر عبدالرحمن عثمان:
- يجمع الشاعر زاهر عثمان تجربته الشعرية التي تمتّد ربعَ قرن في مجموعة واحدة هي (قصائد خضر ويابسات).
- تختلف نصوص المجموعة في زمن كتابتها ، كما تتفاوت في بنائها وفي مستوياتها الفنية والجمالية.

ومن خلال نظرة كلية يمكن تقسيم المجموعة إلى مرحلتين:
- الأولى تعود إلى فترة الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات
- الثانية تمتد منذ تلك الفترة حتى اليوم .
وفيما يلي نسوق أبرز الملاحظات على المرحلتين المذكورتين:

أولاً:
يُلاحظ أن تجربة الشاعر - في المرحلة الثانية - أكثر نضجاً في كتابة النص العمودي من الأولى من حيث التملّك الجمالي لعناصر التجربة، والقدرة على التصوير، وتبدو قدرة الشاعر على الكتابة أكثر إقناعاً، وبعداً عن التكلّف.

يقول:
أرسلتُ خلـفَ بقايـا الأمسِ أغنيتي -- شجيّةً البوحِ قد ضاقتْ بآهاتي
تروي لطيفَ الأسى مافاضَ من شجني -- وتُنذرُ الغدَ بالمرصودِ من ذاتي

ثانياً:
غَلَبَتْ على نصوص التفعيلة - في المرحلة الثانية - الصنعة، أو أن الطابع العقلي المجرّد قد سيطر عليها.

فهي تفتقد إلى الحرارة العاطفية / البديل في التعبير عن التصوير الفني الذي اغتنت به نصوص المرحلة الأولى، إلى جانب أن أغلب نصوص التفعيلة في هذه المرحلة طويلة دون مسوّغ فني، وأغلب الصور الفنية فيها جاء جافاً، فيها مهارة الصنعة، ولكنها تفتقد إلى الحيوية الفنية.

ومن نماذج ذلك قوله:
ميلادُكِ ، كم يحلو الميلادْ
متـئدَ الخطوةِ ، مبتسماً
أشرقَ في كلِّ الأبعادْ
عامُكِ، بل عمركِ
نرجوه نقياً
من عثراتِ الدهرِ
ومحروساً
من كيدِ الحسّاد
ويقول في مكان آخر مؤكّداً ذلك :
من علّمني كيفَ أُعانقُ وجهي بينَ يديهْ
من علّمني
أتكوّنُ من جنبيهِ إليهْ
ذوّبتُ له باقي عُمري
وانسبتُ غريقاً في عينيهْ

بينما بدت نصوص التفعيلة - في المرحلة الأولى - معبّرة عن التجربة بصدق وحرارة، فهناك بساطة في التعبير وسلاسة، ولاتكلّف في بناء المواقف.
والشعر لايُقاس دائماً بالصورة، فقد يستخدمُ الشاعر التعبير ويدعمه بقوة الوجدان.

أريـد أن أقول إن الشاعر كان في مرحلته الأولى (طفولياً)؛ أعني أن دهشة الطفل وإحساسه العميق بما يحيط به قد لازم شعر التفعيلة في المرحلة الأولى، لكن هذا الطفل أصبح في المرحلة الثانية عاقلاً، وبدأ يقرأ العالم المحيط به بذهنية المفكر لا بإحساس الطفل، والشـاعر حين يكبرُ الطفلُ في داخله يميل إلى الصنعة والتجريد، وينتقل من موقع الشاعر إلى موقع الفيلسوف.
لهذا السبب استطاع الشاعر في المرحلة الأولى أن ينمذج أغلب المواقف ويعممها.

من ذلك ما يقوله بانسيابية الطفل في رثاء والده:
أبتي
حدّثني كيفَ العيشُ
وراءَ متاريسِ الدنيا
خلـفَ الأزمان؟
حدثني كيفَ الموتُ
وكيفَ القبرُ
وكيفَ غدوتَ هناكَ الآن؟
ياليتكَ ترجعُ لو لثوانٍ
كي نعـرفَ كُنهَ الموتَ
وصـوتَ الصمتِ
المتربّصِ خلفَ الجدرانْ

ثالثاً:
يميل الشاعر في المرحلة الثانية إلى التعبير الرمزي.
ولعل عنوان المجموعة (قصائد خصر ويابسات)، وتخلّي الشـاعر عن العناوين الجزئية للنصوص يؤكّد هذا االاتجاه.

وقد انعكس التعبير الرمـزي على أغلب أبنية نصوص هذه المرحلة، يقول:
طافتْ على مرافىءِ الزمانْ
وحملقتْ في قسماتٍ خانَها الزمانْ
وحلّقتْ عبرَ المدى المغبّرِ بالأشجانْ
تعثّرتْ بيأسهِ
وبعثرتْ أنينَهَ
ورجَعتْ تعصرُ فوقَ عمريَ المشنوقِ
آهةً ضنينهْ.
وقوله أيضاً: وصحوتُ في كفنِ الحقيقةِ

رابعاً:
ومما يؤكد هذا الاتجاه دلالياً في هذه المرحلة الثانية انكفاء الشاعر إلى (أناه) وانشغاله بها، والتوّغل في أعماقها، واستمتاعه بالألم، وانشغاله بهمومه الذاتية 
يضيقُ بضيقيَ الأرقُ
يُسائلُ، وهو منكسرُ المدى، قلقُ
تُرى هل حينما هذا الطريقُ يطولُ
يفترقُ؟   

خامساً:
إن انكفاء الشاعر إلى الذات دفعَه إلى الزهد لذلك كثُرت في نصوص المرحلة الثانية مفردات مثل: الحيرة، والتيه، والنجوى، والدنّو، والشوق.
وقد دفعَهُ الزهد إلى التصوّف؛ أعني السعي للتوحّد في الأشياء.
والشاعر في هذه المرحلة متصوّف بامتياز؟ يقول:
  أجثو على زمني أعانقُ يأسَهُ -- وإلى عُلاكَ أطيرُ لوعةَ شاكرِ

ويقول أيضاً:
اتعثّرُ في سيلِ ذنوبي -- تُثقلني عثراتُ عيوبي
 والزهـد والتصوّف ساهما في تغيير مفهوم الشاعر للمرأة.
فهناك - في هذه المرحلة - اهتمام كبير بالمرأة، لكن المرأة هنا تأخذ شكل الفكرة والمعنى:
أميلي بعضَ شَعْرِكِ فوقَ يأسي -- عسـاني  أستعينُ  على التأسي
وأَلقي بعضَ أحـلامٍ  سـناءً -- يقضُّ مشارعري ويُضيء كأسي
يحثُّ مدىً  مـن  الآمالِ ولّى -- وتاهَ بـهِ غـدي واستلَّ أمسي 
ترينَ بقيّتي؟ نِيسـانَ   منسي -- أنا المصولبُ في عتماتِ نفسي

ومما يجمعُ بين المرحلتين الأمور التالية:
أولاً:
إن الشـاعر كتب في شكليين مختلفين العمودي والتفعيلة واستمر في الكتابة فيهما، لكن الملاحظ أن تعاطي الشاعر مع الشكل العمودي أصبح أقلَّ من حيث الكم في المرحلة الثانية، وكان الطابع العام له هو التفعيلة.

وقد أخذ تعاطيه مع العمودي في المرحلة الثانية تعاطيَ الشاعر المحترف، لكن المشكلة تكمن في التقاطع الحاد بينه وبين العمودي.
ومن علائم ذلك اعتماده على: استقلالية البيت، ونظام بناء الصورة، والاتكاء على الموضوع القديم.

ومن نماذج استقلالية البيت والصورة قوله:
على رحابكَ تُلقي وعدَها النُّجُمُ -- وخلفَ خطوكِ يهمي الشوقُ والكَلِمُ

وقوله:
عيناكِ أوهنتَا يأسي وما حمَلا -- وهِنْتُ بينهما مُستغرقاً وجلاً

وحين يعتمد النص على هذا الشكل من التعبير يفتقد إلى وحدته العضوية والبنائية معاً مما يؤدي إلى ضعف التفاعل بين عناصره، ومن ثَمَّ إلى ضعفه، وضعف تأثيره الجمالي في المتلقي؛ أعني أن النص حين يعتمد على نظام قوّة الصورة الجزئية فقط متجاوزاً الصورة الكلية يقِلُّ وقعه وهجهُ وينحصر تأثيره في اللحظة التي يتِمّ فيها تلقي هذه الصورة.

ومن نماذج الاتكاء على النموذج القديم بناؤه مناخَ النص على الحوامل الدلالية التي كان الشاعر القديم يبني مناخاته عليها.
وهي مستجلبة مـن البيئة التي كان يحياها آنذاك: الليل، والنجوم، والقمر، وثِقَل الهموم، والطيف.

ولا يكون الخلاص منها إلا عبر المرأة فحسب. يقول:
أيقظتُ عودي غفا في حضنهِ الوترُ -- وقُـدْتُ ليليَ حتى يأذنَ السّهرُ
وجدتُ بالدمعِ أروي النجمَ مبتهلاً -- ويرتقي بـي إلى أفيائـه القمرُ
زادي الأسـى  ومراراتٌ تناوشنُي -- حيناً ويُقلقها إن أوجسَ الضجرُ
وسرتُ نـحوَ  مداكِ المستبدِّ عُلاً -- يقسو علـيَّ ولاينأى بي الحذرُ
أطلَّ طيفُكِ مـن بينَ النجومِ سناً -- يختالُ متّسقاً يهمي وينتشرُ

ثانياً:
رافق التناصُّ المرحلتين ونجح الشاعر في صياغة المعادلة الصعبة فيه. من ذلك قوله:
وفي غدٍ إذ ينـزلُ الصباحْ
ترحلُ شهرزادُ حاملةً كلامَها المباحْ
تاركةً
على الوسائدِ المثيرهْ
قصةً قصيرهْ
تُطلُُّ من سطورِها أميرهْ
وألفُ سندبادْ

ثالثاً:
عناصر الرؤية في المرحلتين واحدة: الحاضر بائس، والفرد مغترب، ومأساة الفرد تأتي على الدوام من المقارنة بين ماكانه قديماً وأصبح عليه الآن.
والفرد هنا بمعنى المجموع.

وهو يعبّر عن ذلك بقوله:
كنتُ في ماضيَّ جوّابَ الفَضَا -- دارتـي العلياءُ   والعزُّ كياني
لاتَسَلْني أينَ أصبحتُ   فقـد --أخرسَ الخَطْبُ فؤادي ولساني 
لم يعـدْ لـي موطنٌ لمّا هوتْ -- نجمةٌ زرقاءُ واحتلّت مكاني

والشاعر يحكمُ على الواقع بالموت وهو يرى أن ما سيكونُ جميلاً في المستقبل ليس من الواقع، وإنما من الماضي إي بسبب الذكرى التي حملناها من الماضي:
لنا في الأمسِ ذكرى سوفَ يحملُها -- غدٌ أريجاً على الأيامِ ينتشرُ

ومن المآخذ على الرؤية غلوُّ الشاعر أحياناً بالمباشرة، فينتقل لديه الفعل الشعري إلى ما يُشبه الشعار:
لاتقلقْ
إذ يلحقُ بالقدسِ حصونٌ
وتموتُ مدائنُ
أو تُنبشْ
 في خصلاتِ الليلِ العربي المبهَمِ
بحثاً عن خائنْ
فالعتمةُ
تمحو أقسى النكباتِ
وتموتُ بها أعتى الآهاتِ

ومن عناصر الرؤية أيضاً قبحُ العالم الغربي، وقليلون هم الشعراء الذين تناولوا العالم الغربي في نصوصهم كما فعل الشاعر زاهر عثمان.
وهذه ميزة تُحسب له.

يقول عن مبنى التجارة العالمي في نصٍّ كتبه عام 1982م:
أنا من آخرِ الدنيا
أتيتُ إليكَ
لما جاءكَ القمرُ
فقد زعموا بأنكَ قمّةُ الدنيا التي يغفو بها القمرُ
وأسمعُ حوليَ الأكوان
والهمساتُ تستترُ
وترقصُ حوليَ الصـورُ
بعيدٌ أنتَ يا قمرُ
مُحالٌ أنتَ ياقمرُ

رابعاً:
شكّل الشاعر (الرؤيا) في المرحلتين من الجميل بشكليه الحسي والروحي في الحياة والمرأة، ونقاء العلاقة الإنسانية، والأمان، والسلام
رفيقي، وموجٌ من الذكرياتِ
يُحرّكُ فيّ الأسى والحنيْن
يؤكّدُ أنا برُغْم ِ السنينْ
عهدٌ وثيقٌ
ويمضي بنا في هداهُ الطريقْ
نفسُ الطريقْ

خامساً:
لا تخلو بعض النصوص من الضعف، أعني هيمنة (الرؤية)، والوقوع في (النثرية) كقوله:
ياسينُ أنا، وأمينُ أنا، وجميعُ محبيكَ هنا
ياسينٌ وأمينْ
فيكَ نُعزّى
وتظلُّ لنا الدهرَ عزاءً
يجمعُنا في اللهِ رجاءٌ ويقينْ
أن نلقاكَ بدارِكَ في جنّاتٍ وعيونْ

خلاصة القول:
زاهر عثمان شاعر جميل، وشعره مثّلَ بصدق وعفوية لاتخلو من مهارة الصنعة جيلي الثمانينيات والتسعينيات.