الميتـاشعـر.. خطاب نقدي يصوغ إبداعيا اهتمامات المحيط الثقافي للشاعر اللسانية والشعرية ويحدد العلاقات بين الكتابات اللسانية والنصوص النقدية أو الشعرية

شكل الشعر دوما مجالا خصبا للتداخل والانصهار بين الابداع والنقد في مختلف الآداب العالمية.
وقد اتخذ هذا التداخل أشكالا مختلفة، بدءا من الوعي النقدي الذي يلازم سيرورة الإبداع نفسها من حيث خضوعها للتأمل والتنقيح وإعادة النظر والتقويم وغيرها من العمليات التي تجعلنا نؤكد أن الشاعر يضمر في داخله ناقدا بالقوة وبالفعل، وصولا إلى إدماج القصيدة الحديثة للمكون الميتاشعري باعتباره جزءا من متخيل القصيدة كتعبير عن أفق حداثي في التجربة الشعرية.

فبخصوص المظهر الأول، يؤكد ت.س. إليوت أن "عملية الغربلة والربط والبناء والشطب والتصحيح والاختيار... تشكل جهدا مضنيا للنقد فيها ما للخلق من أهمية. وأنا أزعم أن النقد الذي يمارسه كاتب ماهر متمرس على أعماله هو أهم أنواع النقد وأسماها".

ونظرا للمظهر الإيجابي لهذا النوع من النقد، فقد وجدنا في التراث الشعري العربي تجارب تعتمده كقاعدة في  الممارسة الإبداعية، ومنها، على الخصوص مدرسة الحوليات التي يمثلها زهير بن أبي سلمى الذي كان لا يخرج قصيدته للتداول إلا بعد أن يمر عليها حول كامل من التنقيح والتحكيك.

وبموازاة مع هذا، نجد بعض الشعراء الذين لا يكتفون بجعل قصائدهم تنوب عنهم في التعبير عما بذلوه من جهد نقدي في نظمها، بل يحولون هذا الجهد إلى موضوع أساسي داخل القصيدة، حيث نجد في الشعر العربي القديم، مثلا، أبياتا كثيرة يتحدث فيها الشعراء عن معاناتهم في اختيار القوافي وفي تقويم وزن القصيدة.

ويلاحظ أن العلاقة بين الشعر والنقد قد تجاوزت، أحيانا، هذه المظاهر الضمنية لتصبح صياغة خطابية صريحة، كما هو الشأن بالنسبة لما سمي بـ "النقد المنظوم"، الذي ينحدر تاريخه من "شعرية" هوراس ليصل إلى سانت بوف في العصر الحديث.

وفي تعليقهما على هذا الأخير، يرى صاحبا كتاب "النقد الأدبي" بأن ما يجعل شعره وروايته رديئتين، من جهة، هو الصفات النقدية التي يظهرها فيهما.

إن سانت بوف بدلا من أن يعبر مباشرة عن نفسه، فإنه يحلل نفسه، وبدلا من أن يفصح بالشعر أو النثر عن مشاعره وانفعالاته وقلقه، فإنه يعطيها تفسيرا مجردا؛ وأن دواوينه الشعرية هي، في الواقع، مختلطة بأفكار عن مهمته كناقد حتى أننا نجد فيها نقدا منظوما!.

وفيما يتعلق بما سميناه بالمكون الميتاشعري في القصيدة، يمكن القول إن أصوله وإرهاصاته الأولية بدأت مع القصيدة القديمة، حيث نجد شعراء يصوغون تصوراتهم عن الشعر وطبيعته ووظيفته في أبيات شعرية.

ويمكن أن نمثل لهذا بنموذجين: الأول يعبر، من خلاله، حسان بن ثابت عن موقفه من قضية الصدق والكذب في الشعر- وهي قضية أساسية في النقد العربي القديم - حيث يقول:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
وإن أشعر بيت أنت قائـلـه
على المجالس إن كيسا وإن حمقا
بيت يقال إذا أنشدته: صدقـــــا

والثاني يتحدث فيه البحتري عن الفرق بين الشعر والخطبة من حيث اعتماد الأول على الإيحاء عوض الهذر، وهو الموقف الذي تبناه أبو الحسن الآمدي باعتباره ناقدا، حيث يقول: "لأن الشعر أجوده أبلغه، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصانا يقف دون الغاية، وذلك كما قال البحتري:
والشعر لمح تكفي إشارتـه -- وليس بالهذر طولت خطبه "

إلا أن ما ينبغي تأكيده هو أن حضورا من هذا النوع للمكون الميتاشعري، لم يكن ترجمة لاختيار جمالي واع كما هو الشأن في التجربة الشعرية الحداثية التي أصبحت فيها علاقة هذا المكون بالنص جزءا من متخيل القصيدة، وبالتالي، عنصرا دالا في البناء الدلالي والرؤيوي لهذه القصيدة.

وعن هذا النمط، يسرد رينيه ويليك نماذج من الشعر الأوربي والأمريكي، حيث يقول: "ومع ذلك ظل بعض الشعراء يحاولون التحدث في شعرهم عن الشعر والشعراء، أي أن يخلقوا شيئا سمي الشعر الحديث عن الشعر Meta- poetry مثلما نتكلم عن لغة الحديث عن اللغة.

ويهتم هذا الشعر الذي يتحدث عن الشعر بتجديد هوية الشاعر ووظيفته ورسالته.
ولابد من ربطه بالتساؤل الحديث حول مكانته كصاحب رؤيا، ككاهن أو حكيم.

وقد أعاد هولدرلن في ألمانيا التأكيد في الشعر على قدسية رسالة الشاعر، وطلب رلكه في وقت ليس بالبعيد من الشاعر، في المرثية السابعة من مراثي دوينو، أن يعيد تشكيل العالم المرئي برمته إلى فضاء داخلي.

وفي فرنسا كتب مالارميه قصيدة "النخب الحزين" لتيوفيل غوتييه أعاد فيها التأكيد بلهجة التحدي اليائس على وظيفة الفن المخلدة عن طريق التحريك الرزين لهواء الكلمات.

أما في الشعر الأمريكي، فمن الممكن الاستشهاد بقصيدة والس ستيفنز "ملاحظات من أجل عالم خيالي علوي" أو قصيدة "فكرة النظام في كي وست" التي تخاطب ناقدا فرنسيا هو رامون فرناندز لتمدح ذلك الحماس المقدس للنظام، حماس الصانع لنظم الكلمات.. أو قد نستشهد بقصيدة آرجيبولد مكليش "فن الشعر" بخاتمتها التي غالبا ما يساء فهمها والتي تقول: القصيدة لا يجب أن تعني بل أن تكون.

وقد يتخذ المكون الميتاشعري، في بعض التجارب، شكل خطاب نقدي يصوغ إبداعيا اهتمامات المحيط الثقافي للشاعر اللسانية والشعرية، بحيث يصبح الشعر حقلا لتجريب هذه الاهتمامات.

ولعل هذا ما تبرزه إحدى الدراسات التي عملت على "تحديد عدد معين من العلاقات بين الكتابات اللسانية ل ج.بولان J.Paulhan، والنصوص النقدية أو الشعرية لإيلوار، وإبراز كيفية تمكن الأولى من إنشاء ميتالغة محددة باعتبارها " نموذجا لغويا " بالنسبة للثانية".

فإذا كان بولان قد صاغ ميتالغة لسانية تقوم على الاهتمام بالكلمة، وبعلاقة الذات المتكلمة باللغة والصور والأمثال، فإن الإبداع الشعري للشاعر السوريالي بول إيلوار قد عمل على اختبار هذه الميتالغة وتقديم معادلها الإبداعي.

وقد يتحول المكون الميتاشعري إلى تحليل لتجارب شعراء آخرين والتعليق عليها.
ويمكن أن نمثل لذلك بنموذج من الشعر العربي المعاصر يجسده محمد عفيفي مطر، هذا الشاعر الذي تجمع شخصيته الأدبية بين الخاصيتين الإبداعية والنقدية، ويتميز بالقدرة على صهرهما في قالب واحد، كما هو الشأن في إحدى قصائده ذات النفس الدرامي عنونها بـ "الملكة واللوردات وآخرون" "تراجيديا".

يقول في مقطعها السادس الموسوم بـ "الشعر":
"الشعر              
دعوا التشطير والتخميس.. هذا الشعر أجداث
وأوهام مخرقة وأضغاث
دعوا الخيام يشرب كأسه وحده
ويلعن ظلمة الحفرة
ويشكو قسوة الأقدار للندمان
دعوا "شوقي" يسبح ربه السلطان
ويلبس تاج مملكة مزيفة بلا تيجان
دعوا الموتى..
فكم سفحوا محابرهم على الأعتاب
ومدوا كفهم للرّفد والخلعة
ويا أسفا .. مضوا .. تركوا حروفا
طرزت بالوشي والصنعة
وليس بها عبير تراب
وليس بها عبير الليل حين ينيره الإنسان
ببعض عذابه، بالجوع بالحمى
وهذا العصر - رغم جفافه - يشتاق للكلمة
إذا سارت على قدمين
وغاصت في الدم المشبوب حمرة نار
وشفت عن ضمير القاع..".

يتأرجح الخطاب الميتاشعري في هذا المقطع بين بنيتين : إحداهما تقويضية، والثانية تأسيسية.
الأولى هدم لمفهوم شعري يتغنى بالأجداث والأوهام والأضغاث، والثانية بناء لمفهوم آخر، نقيض للأول، يقوم على ضرورة غوص الشعر في عمق الإنسان وفي دمه وضميره.

إن عفيفي مطر ينتقد هنا تجربتين شعريتين:
- الأولى لعمر الخيام الذي تغنى بالكأس ولعن الموت في رباعياته.
- الثانية لأحمد شوقي الذي كرس جانبا من شعره لمدح السلطان.

وعلى أنقاض هاتين التجربتين يبني موقفه الذي يعتبر الشعر ضرورة لهذا العصر، ويمجد ما ارتبط منه بالأرض والإنسان، وغاص في أعماقهما بعيدا عن الزيف والخداع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال