بنية الشكل والموقع في مسرحية أوديب ملكاً.. اللاموقع أو قتل مفهوم البطل عند إلياس خوري.. بنية الموقعين في موسم الهجرة إلى الشمال.. تعدد المواقع في ميرامار



أما كتابها (الراوي: الموقع والشكل: بحث في السرد الروائي) 1986، فقد جعلته قسمين أيضاً: الأول (تنظيري) تحدثت فيه عن القراءة، والنقد، والموقع، والكتابة والتحولات الاجتماعية، والثاني (تطبيقي) درست فيه (بنية الشكل والموقع في أوديب ملكاً)، و(اللاموقع أو قتل مفهوم البطل عند إلياس خوري)، و(بنية الموقعين في موسم الهجرة إلى الشمال)، و(تعدد المواقع في ميرامار)، و(الموقع المنفتح على المواقع الأخرى في التيه)، وهي تعني بـ(الموقع) العلاقات الاجتماعية، فهي تقول: (لا نقد بلا قراءة، ولا قراءة بلا قارئ، ولا قارئ بلا موقع، ولا موقع إلا في الاجتماعي، أو في العلاقات ذات الهوية الاجتماعية – ص16).

ومن هذا (الموقع) الاجتماعي تكون القراءة علاقة نقدية بين كلام النص الناطق وكلام القراءة/ النقد الصامت.
إذ لا تكون القراءة نقدية بالتماهي مع النص المقروء، بالغياب فيه، بل باستنطاقه.

ذلك أن قيمة النص الأدبي –كما ترى الباحثة- إنما تقوم في علاقته بمراجعه التي يحيل إليها.
وبهذا يبدو النص متغير الدلالات أو مولّدها وفق علاقته بالقراءة.

وتكون القراءة منتجة إذا كان بمقدور القارئ أن يفهم النص ويفسره ويناقشه ويحاوره، ليخرج من مجرد متلقٍ سلبي تنطبع على سطح ذاكرته حمولات النص وتتركه أسيراً لها، إلى حضور فاعل في النتاج الثقافي في المجتمع.

وتنبّه الباحثة إلى التمييز بين (الموقع) و(زاوية الرؤية) فترى أن الموقع هو الأكثر إحالة على الهوية الإيديولوجية.
كما تربط بين (الموقع) والمستوى الإيديولوجي، فترى أن اختلاف أشكال الوعي يدل على اختلاف المواقع الذي يجد سبيله إلى تنويع لغات القول.

في القسم الثاني (التطبيق النقدي) تناولت في (بنية الشكل والموقع في مسرحية أوديب ملكاً) النص المكتوب على مستوين: مستوى الحكاية، ومستوى القول.
أما (مستوى الحكاية) فهو ليس موجز المسرحية، وإنما نصل إليه بعد تفكيك القول وتجريده من لعبته.

والمفاصل الأساسية في الحكاية هي: لايوس وزوجته يوكاستا ملكا مدينة طيبة.
يلدان ولداً ذكراً هو أوديب. ينبئ الإله أبو للون أن أوديب سيقتل أباه ويتزوج أمه.
فيأمر الوالدان خادماً لهما بأن يقتل الطفل في الجبال.
لكن الخادم يشفق على الطفل فيودعه راعياً ليربيه كابن له.

لكن ملك كورنثيا وزوجته اللذين لا أولاد لهما يأخذان الطفل من الراعي ويتبنيانه.
وحين يصبح أوديب شاباً، يعيّره أحدهم بأنه ليس ابن أمه وأبيه.
فينطلق أوديب إلى المعبد، ويسأل أبو للون عن الحقيقة، فيؤكد له أبو للون النبوءة. فيترك أوديب المدينة كي لا تتحقق النبوءة.

وفي طريقه يقتل شيخاً في عربة لم يوسع لها الطريق، ولم يكن يدري أنه قتل أباه، ثم يصل إلى طيبة، فيحلّ اللغز، ويحق له الزواج بالملكة التي لم تكن سوى أمه.

ونتيجة لذلك يحل الطاعون بطيبة، فيعلن كريون أن سبب الطاعون هو قاتل لايوس، وأن أبو للون يأمر بتطهير طيبة.
وفي النهاية يعرف أوديب الحقيقة؛ وهي أنه قتل أباه وتزوج أمه، فيفقأ عينيه تكفيراً عن إثمه الذي ارتكبه دون علمه.

إن (المنهج الشكلي) يرى أن حلقات القص تتماسك، وأن منطق بنيتها هو في تماسكها وتوالي أحداثها، كما يلي:
1- فقأ أوديب عينيه.. لأنه أراد أن يتطهر من أثمه.
2- أراد أن يتطهر.. لأنه آثم.
3- هو آثم.. لأنه تزوج أمه.
4- تزوج أمه.. لأنه قتل أباه.
5- قتل أباه.. لأنه خرج من كورنثيا.
6- خرج من كورنثيا.. لأنه تمرد على النبوءة.
7- تمرد على النبوءة.. لأنه لم يكن يعرف أن ملك كورنثيا ليس اباه.
8- لم يكن يعرف أن ملك كورنثيا ليس أباه.. لأن أباه أبعده عن طيبة بعد ولادته.
9- أبعده أبوه عن طيبة.. لأنه رغب في ألا تتحقق النبوءة.

لكن الباحثة ترفض هذا الترابط المنطقي الذي يتحكم بالبنية، وتراه (يُسقط الموقع الذي منه ينهض القول، أو يُسقط الاجتماعي الذي هو نطق الفني ولعبته الإيهامية – ص57).

وبهذا فهي تتخلى عن (البنيوي) من أجل (الاجتماعي)، إذ ليس (الموقع) لديها سوى (الاجتماعي) المعبّر عنه بالفني، وإذا كانت قد تبنّت (الاجتماعي) منهجاً نقدياً، فإنها لم تنطلق إلى عرض الظروف التاريخية والاجتماعية للأسطورة، ومناقشتها، وهي الخطوة الثانية في (المنهج البنيوي التكويني) الذي تتبنّاه، واكتفت بالقول إن (الموقع) هنا هو سلطة القدر.

وقد استخرجت من القص العربي المعاصر ثلاثة أنماط هي:
1- نمط يتميز بهيمنة (موقع) الراوي البطل الذي يحكم منطق بنيته القص. ومعظم قصصنا الحديث من هذا النمط (جبران، الريحاني، هيكل، نجيب محفوظ في ثلاثيته وفي أولاد حارتنا وغيرهما، عبد الرحمن منيف في مدن الملح..).

2- ونمط يتميز بالخروج على مفهوم البطل/ الراوي الذي يروي من موقع واحد مهيمن إلى قص يصدر عن راويين بطلين لهما موقفان متصارعان. وبالصراع بينهما ينمو فعل القص.

3- ونمط ثالث ينزع إلى كسر حصانة البطل/ الراوي، وتقويض هالة تفوقه المطلق. وبالتالي يقف هذا النمط ضد ما قد يخفيه نطق البطل من أهداف تعليمية ونمطية، وضد ما يحمله فعل القص المحكوم بموقع البطل، من نوازع إيديولوجية قد تتسم بالضيق والمحدودية.

وكمثال على ذلك تورد الباحثة قصة (رائحة الصابون) من مجموعة (المبتدأ والخبر) 1985 لإلياس خوري حيث يُقدّم الكاتبُ الراوي على أنه (هو)، وهو (أنا) فيبدو ملتبساً: يروي، ويُروى عنه. وبهذا الالتباس يوهمنا بأنه لا موقع له في الهيمنة.

في فصل (الموقع المنفتح على المواقع الأخرى في (تيه) 1984 عبد الرحمن منيف) لخصت الباحثةُ الرواية في أكثر من خمسين صفحة، ودمجت التلخيص بالمناقشة لهذه الرواية التي هي الجزء الأول من خماسية منيف (مدن الملح)، دون أن تحللها بنيوياً شكلياً، ولا بنيوياً تكوينياً.

وقد بدأ الكاتب/ الراوي بوصف (وادي العيون) وحياة أهله وأصلهم وعاداتهم وقسوة الطبيعة ومرارة العيش في صحرائهم.

ومع ذلك فهم راضون قانعون، حتى جاء الأجانب يبحثون عن الماء. وما كان هؤلاء الأجانب سوى (الأمريكان) (الكفار) (الشياطين) الذين جاءوا من أجل الذهب الأسود وليس من أجل الماء.

فبدأت آلاتهم المجنونة تقتلع الأشجار وتقلب وجه الأرض. أما أهل الوادي فقد قابلوهم بالصمت، فبعضهم رحل، وبعضهم مات، وبعضهم ينتظر.

وقد عجز أهل الوادي عن طردهم، فرحلوا تاركين واديهم للمشروع أو للتغيير الذي يجهلون نتائجه. لقد رحلوا إلى منازلهم الجديدة في (الحدرة) لكنهم شعروا بعداء نحو هذا المكان الجديد لما فيه من قسوة.

لقد أُبيدت وادي العيون. فقدت أشجارها، وبساطة العيش، وطيبة الناس، وخضع الوادي لسلطة المشروع النفطي، فنهضت (حرّان) الواقعة على شاطئ البحر، كمدينة، وكميناء وبنيت فيها معسكرات العمال، وأقيمت الأفران والمقاهي ودكاكين بيع الحاجيات المستوردة، ونُظّمت وسائل النقل.

فبعد سيارتي آكوب وراجي المضحكتين جاءت باصات محيي الدين النقيب، ومحمد السيف الفخمة، لتنقل الناس بسرعة لا تُصدّق.

فمات آكوب الأرمني قهراً، وعانى راجي الحرمان. ومات مفضي الجدعان الطبيب العربي الذي كان يداوي الناس. قتلوه لأنه نافس الدكتور صبحي المحملجي. وقبل أن يقتلوه سجنوه بتهمة شتم أصحاب المصالح المستحدثة وجاءوا بشهود زور كثر. ولم يصدّق الناس أنه مات. قالوا إنه غاب لأنه رمز لضمير الناس ووعيهم.

وصمت الجميع لعجزهم أمام القوة الخفية التي طغت بفسادها على كل شيء: النقيب، ورضائي، والسيف، والمحملجي، والدباسي، وغيرهم ممن توزع مرافق استثمار البلد الجديد.

وكذلك توزع الأنذال سلطة الأمير: (جوهر) مسؤول الحراسة ومشرف الأمن، و(نعيم) مفتاح العلاقة مع الأمريكان، و(نمر) رئيس مفرزة الحرس.
لقد تواطأ هؤلاء مع المستثمرين ضد مصالح العمال والفقراء من أبناء بلدهم أو أبناء البلدان المجاورة.

والأمير عاجز، مخيّب لآمال الناس لا مرجع لهم سواه باعتباره أعلى سلطة. ولكنه سلطة دون فعل.
وكان أكثر الناس حيرة وضياعاً: فهو أول مَنْ رأى بالمنظار، وسمع الراديو، وتكلم بالهاتف، وركب السيارة.

ومع ذلك فهو يردد (العفاريت والمعاصي والمصائب) التي حملها الأمريكان الذين جاءوا بمعداتهم الحديدية الضخمة، والرجال الذين يعملون داخلها وكأنهم (العفاريت).

لقد تزعزع الإيمان، وتدهورت الأخلاق، وتراجع الأمير، وتقدّم الأمريكان فصارت لهم (حرّانهم) العامرة، وبيوتهم المكيّفة، ومسابحهم الجميلة، وسهراتهم الضاحكة، وموسيقاهم العالية، ونساؤهم المتحررات.

لقد أقاموا عالم (حضارتهم) وسوّروه. ومن هذا العالم حاولوا مدّ الجسور مع العرب لاستغلالهم (أولاد الحرام الأمريكان ما وراهم إلا التعب ووجع الرأس. هم باللحم وجماعتنا على العظام ما تحصل – ص208).

ولذلك تراجع الأمريكان داخل أسوار (حرّانهم) وتركوا أتباعهم العرب وسطاء بينهم وبين العمال والفقراء.
أما العرب الوسطاء فقد كانوا أشد قسوة على العرب الفقراء.

يقول أحدهم (هؤلاء البدو لا تنفع معهم إلى العصا – ص219)، و(حسبنا أنكم صرتم بشراً – ص219).
ويقول الأمريكي سنكلر: (إنهم مثل الحيوانات يدفع بعضهم بعضاً ويتحركون بهذه الطريقة البدائية تعبيراً عن الفرح – ص253).

لكن العمال راحوا يخترقون الحصار بقوة واقعهم الاجتماعي الذي يعيشون، وبقوة وعيهم لواقعهم، فتظاهروا، وأضربوا، وتجمّعوا، وساروا مطالبين برفع الظلم عنهم. وكانت جموع الناس تنضم إليهم في مسيرتهم.

لكن النتيجة كانت طرد ثلاثة وعشرين عاملاً، وأصدار أحكام القتل والظلم من قبل الأمير الذي كان يجهل حقيقة الأمر.
وقال جوهر (ذَنَب الأمريكان) عن العمال المضربين: (إذا ما كسرنا رؤوسهم، إذا ما ضعضعنا عظامهم يركبونا – ص564)، فاطمأن فيليب إلى اليد القوية التي توفر على الشركة المواجهة المباشرة مع العمال، وحرّفت الشركة الأمر بوجود تيارات سياسية وتنظيمات تحريضية.

(قال فيليب: -الشركة لن تلبي مطالب العمال ولن تعيد تحت الضغط والتهديد الذين تركوا الخدمة – ص564).
(وقال جوهر: -أطلقوا النار. ومنعاً لكل تردد أشهر مسدسه وبدأ بإطلاق النار – ص569).

وأوجدت الشركة حلاً يجنبها فتح باب الحلول مرة أخرى، فقالت إن العمال عادوا إلى الشركة بناء على أمر الأمير، فضاعت المسؤولية.
وهكذا تثبت الباحثة أمرين:

1- الانفصال بين تنظيرها وتطبيقها النقدي، بحيث يبدو التمايز واضحاً بينهما.
فعلى حين يورد التنظير نتفاً من المنهجين البنيويين: الشكلي، والتكويني، واستفادة من لوتمان، وغولدمان، فإن التطبيق يبدو بعيداً عن هذا التنظير، إلا فيما ندر.

2- تطورها في فهم البنيوية، واستيعابها لمقولاتها ومفاهيمها، فعلى حين كانت في كتابها (في معرفة النص) في ألف باء المنهج، فإنها تعمقت المنهج أكثر في كتابها (الراوي: الموقع والشكل).
ولعلها كانت بنيوية أكثر في كتابها التالي (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي) 1990.


0 تعليقات:

إرسال تعليق