الأرشيف والذاكرة.. تدوين الأحداث والوقائع و النوازل وحفظ حالات نفسية ماضية وكل ما يتعلق بها والتذكير بها



الأرشيف والذاكرة

كان الإنسان يشعر منذ العصور العابرة بضرورة تدوين خلجات نفسه وما يدور في خلده من أفكار ومعلومات حول الأحداث والمواقف والوقائع التي يكون فيها الإنسان فاعلا أو ممثلا لها.
ومن هنا نعلم أن الوثيقة المكتوبة ليست وليدة اليوم،  بل لها جذور في عمق التاريخ البشري.

بداية تدوين التراث الإنساني:

هكذا فإن الإنسان الحجري كان يدون بعض المعلومات التي تعكس السلوك الاجتماعي والاعتقادات والعادات وكل ما يحيط بالعالم الذي كان يعيش فيه مثل النقوش الموجودة في الطاسيلي بالجنوب الجزائري.
ولقد لعبت الكتابة دورا هاما في تقوية القدرات المادية للذاكرة الإنسانية.

أليست هذه الرسوم المنقوشة هي بداية تدوين التراث الإنساني الذي انتقل من مجتمع يتعامل شفويا في غالب الأحيان، ثم انتقل إلى ثقافة تعتمد على المكتوب بعد اكتشاف الكتابة التي تعتبر من العوامل الأساسية في ظهور الوثائق الأرشيفية وانتشارها.

وهكذا سمحت الوثيقة المكتوبة بصفة عامة بتكوين كميات هائلة من المعارف وبالتالي تحديد القيمة المعلوماتية باستمرار وتحديثها، ويمكن القول أن الكتابة تتولد عنها الكتابات و كل المعارف المحفوظة كأرشيف، والتي ما هي إلا نقطة انطلاق لبناء معارف أخرى تضمن ديمومة المعارف الإنسانية.

الوثائق الأرشيفية:

ومن هنا نعلم أيضا أن الكتابة منذ أن دخلت في تاريخ الإنسانية وقادتها إلى حضارات عظيمة أدى فيها الأرشيف دورا أساسا في حياة الحكام و خزائنهم كمصدر لقوانينهم.

و سواء كانت هذه الوثائق مسجلة على الحجر أو ألواح الفخار أو على ورق البردي أو على سعف النخيل أو على الرق أو على الورق، فإنها كانت تحفظ دائما في سرية تامة تبعا للإمكانيات الموجودة، حفظت في أول الأمر في حجرات مغلقة ثم في صناديق و المخازن، ثم بدأت الوثائق الأرشيفية المنظمة في التطور مع بداية الدولة الحديثة في نهاية العصور الوسطى، وكانت تحفظ في أماكن ملحقة بالإدارة المركزية أو في مباني منفصلة. 

مر الأرشيف على عدة مراحل بعد خروجه من الدائرة التي أنتجته، وانتهت الاستعمالات المنوطة به، ثم وجد الطريق إلى الحفظ إن كان أهلا لذلك، في مراكز أرصدة الأرشيف، هذه هي وظيفة الأرشيف التقليدية باختصار.

العلاقة بين الأرشيف والذاكرة الوطنية:

ولكن بعد هذا، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ما هي العلاقة بين الأرشيف والذاكرة الوطنية؟

كان الأرشيف ولا يزال يحدد ويعترف به كذاكرة مدونة يعود تاريخ تسميته، بمفهوم كذاكرة أمة، إلى نهاية القرن التاسع عشر، ثم بدأ يستعمل بصفة تدريجية مع فجر القرن العشرين بمفهوم ذاكرة الدولة أولا، ثم الذاكرة الوطنية المدونة ثانيا.

وهكذا اعتبر كتراث يجب حفظه وحمايته، وقبل ذلك كان يغلب عليه الطابع الشفوي أي في الأزمنة التي لم تظهر فيها الكتابة.

ومع مرور الأيام انفصل مفهوم الأرشيف عن مدلوله الأصلي الذي يعني تدوين الأحداث والوقائع و النوازل لينتقل فيما بعد إلى مفهوم أوسع أولا، وهو التراث الوطني، أي بمعنى آخر، كل ما سجل من وثائق أرشيفية ذات المضامين المتنوعة ومختلف الأغراض في حياة شعب من الشعوب، لتصبح ذاكرة وطنية شرعية يلجأ إليها عند الضرورة.

مفهوم الذاكرة:

ومن أجل فهم أكثر للعلاقة الوطيدة التي تربط الأرشيف بالذاكرة الوطنية ينبغي إيضاح مفهوم الذاكرة، ونطرح الأسئلة التالية:
- ما معنى الذاكرة؟
- ما هي طبيعتها؟
- ما هي مميزاتها؟

بالرجوع إلى القاموس روبير le Petit Robert نجد التعريف الآتي: هي القدرة على حفظ حالات نفسية ماضية وكل ما يتعلق بها والتذكير بها، إضافة إلى الذهن الذي يحفظ  ذكريات الماضي. وخلاصة القول أن الذاكرة هي كل ما اختلج في فكر الإنسان وذهنه من أفكار ومفاهيم ومعارف في الماضي، ولها قابلية الرجوع إليها في الحاضر عند الاقتضاء.

الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية:

وحسب العالم الإجتماعي موريس هيلبواش Maurice Halbwachs الذي يقول: ''إن الذاكرة الفردية تمثل و جهة نظر حول الذاكرة الجماعية، فالمنظمات التي هي المستودعات الفردية للذاكرة، تشكل نظاما اجتماعيا طبيعيا يسمح وحده بوعي أكثر بالذات، وتحديد موقعها في العالم، وبالتالي إثبات هويتها.

و يرى ألبير شيفلان Albert E. Scheflen أن الذاكرة تشبه بطاقة البرامج الثقافية المستبطنة، وتظهر على شكل عادات وأعراف، وترمي إلى تكييف طريقة الفعل ورد الفعل عند الأفراد.. وذلك حسب خطة خاصة بمجموعة بشرية.