مقامات السرقسطي.. الراوي السائب بن تمام والمنذر بن حمام. رسم هوية للمقامة الأندلسية وتقليد كتاب المقامات المشرقيين الأوائل في كل خاصيات المقامات عندهم

مقامات السرقسطي:

تأتي مقامات "السرقسطي" في مقدمة المقامات الأندلسية إذا أردنا أن ندرس شخصية الراوي، لأنها ثابتة في مقاماته بخلاف بقية المقامات الأندلسية.

السائب بن تمام:

وقد سمى الراوي باسم "السائب بن تمام" الذي كما سبق أن عرفناه في مستهل المقامات يروي الأحداث بنفسه أو يسندها إلى راوٍ آخر يُدعى "المنذر بن حمام".
و"للسائب بن تمام" الدور المحوري في الرواية، و يكنيه "السرقسطي" "أبا الغمر".
وهناك إشكالية في دراسة شخصية الراوية عند "السرقسطي".
ففي "المقامات اللزومية" بتحقيق الدكتور "بدر أحمد ضيف" هناك عدد كبير من المقامات لم يرد فيها اسم الراوي.
وإذا رجعنا إلى "المقامات اللزومية" بتحقيق الدكتور "حسن الوراكلي" نجده يورد هذه المقامات كلها مع الراوي استنادًا على بعض نسخ التحقيق.

منهج السرقسطي في الراوية:

وهذا الأمر أثار في نفسي تساؤلات، منها: ما منهج "السرقسطي" في الراوية، يذكره سردًا مطلقًا في كل المقامات أو يسقطه في بعضها؟ المقامات التي حققها الدكتور "بدر أحمد ضيف"، هل أسقط النسّاخ اسم الراوي في بعضها أم لا؟.
والذي يهمنا أكثر أن الراوي في مقامات "السرقسطي" لَه ملامح بارزة كما هو في المقامات المشرقية.
وقد ظهر الراوي، وهو شابٌّ، كما يقول عن نفسه: (كُنْتُ وَرَيْعَانُ الشَّبِيبَةِ نَاضِرٌ...) وقد ينحرف في سفرياته، ويقترف بعض الذنوب في تعاطيه اللذت، كما حكى ذلك عن نفسه إذ يقول: (...وَكَلِفْتُ بِالصَّبُوحِ وَالْغَبُوقِ، وَجَارَيْتُ كُلَّ لَحُوقٍ فِي الْبِطَالَةِ وَسَبُوقٍ، أَصْبُو إِلَى النَّغَمِ وَالْمَلاَهِي، وَأَنَا عَنْ رُشْدِي سَاهٍ أَوْ لاَهِي...)، وقد تكون هذه الأسفار لطلب الرزق، وتكون تارة ناجحة، عند ما يدخل "الإسكندرية"، وهو يطلب علماءها وزهّادها للإفادة منهم، وهو في ثراء وترف، كما يقول عنه "السرقسطي": (... فَحَلَلْتُ بِالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَقَدْ خَلَصْتُ إِلَيْهَا بِالْوَفْرِ وَالْحَالِ السَّرِيَّةِ، وَكُنْتُ إِذَا حَلَلْتُ مِثْلَهَا مِنْ حَضْرَةٍ، الْتَمَسْتُ مَا فِيهَا مِنْ حُسْنٍ وَنَضْرَةٍ، وَتَتَبَّعْتُ صُلَحَاءَهَا وَزُهَّادَهَا...)، وتارة أخرى تبوء هذه الأسفار بالفشل، كما يقول "السرقسطي" على لسان الراوي: (مَا زِلْتُ أَرْكَبُ الدَّهْرَ حَالاً بَعْدَ حَالٍ، مِنْ خِصْبٍ وَإِمْحَالٍ، وَحَلٍّ وَتَرْحَالٍ، أَتَتَبَّعُ الرِّزْقَ وَأَسْتَثِيرُهُ، فَيَأْبَى عَلَيَّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، أُقَارِبُهُ فَيُبَاعِدُ، وَأُطَالِبُهُ فَلاَ يُسَاعِدُ...) ويتعرّف على البطل بعد لأْيٍ ما، حيث يقول: ( فَبَعْدَ حِينٍ مَا عَرَفْتُ أَنَّهُ أَبُو حَبِيبٍ)، وقد يجره حب المعرفة إلى أن يسأل البطل عن الشعر والشعراء، كما يحكي عنه "السرقسطي": (... وَكُنْتُ أَرَى أَنَّ الشِّعْرَ ثَمَرَةُ الْمَعَارِفِ، وَعَارِفَةُ الْعَوَارِفِ، فَقُلْتُ: مَا رَأْيُكَ فِي الْمَلِكِ الضَّلِيلِ؟). وهكذا يتقدم به العمر، ويبلغ سن الرشد قائلاً: (وَقَدْ طَوَيْتُ الصِّبَا طَيَّ الْبُرُودِ...)، وهكذا يحن إلى وطنه حيث يقول: (حَنَنْتُ إِلَى الْوَطَنِ الْمَحْبُوبِ، وَنَزَعْتُ إِلَى الْعَطَنِ الْمَشْبُوبِ، حَيْثُ مَأْرَبُ الشَّبَابِ، وَمَلاَعِبُ الأَحْبَابِ، وَحَيْثُ عُقَّتِ التَّمَائِمُ، وَشُقَّتِ الْكَمَائِمُ...)، ويعود إلى وطنه، ليحس بها بقية من نفسات عمره، فيقول عنه "السرقسطي": (لَمَّا اسْتَنَّ بِي سِنُّ الاِكْتِهَالِ، وَأَشْرَفْتُ مِنَ الْعُمْرِ عَلَى الْقَوْزِ الْمُنْهَالِ، وَيَئِسْتُ مِنَ الإِمْهَالِ، وَقَنِعْتُ منَ الْعَلَلِ بِالنِّهَالِ، حَدَانِي مِنَ الشَّوْقِ مَا حَدَانِي، فَتَفَقَّدْتُ إِخْوَانِي وَأَخْدَانِي...).

تقليد كتاب المقامات المشرقيين:

ولم يجر "السرقسطي" تعارفًا -كما فعله "الحريري"- بين الراوي والبطل.
فيقول في المقامة الأولى بعد ما فارقه البطل: (فَعَلِمْتُ أَنَّهُ أَبُو حَبِيبٍ، وَقُلْتُ: مَا لِدَاءِ كَيْدِهِ مِنْ طَبِيبٍ).
ويبدو أن "السرقسطي" قلّد كتاب المقامات المشرقيين الأوائل في كل خاصيات المقامات عندهم.
الاندهاش الذي يوصف به راوية "بديع الزمان الهمذاني" "عيسى بن هشام" يرد بكثرة أيضًا عند راوية "السرقسطي" "السائب ابن تمام".
فلم يتعرّف على البطل "أبي حبيب" إلا بعد لأي ما.

رسم هوية للمقامة الأندلسية:

وقد سبقت الإشارة إلى مقامة "ابن شرف" التي صرح فيها بأنه يرويها عن "أبي الريان".
وكذا الأمر عند مقامة "ابن المرابع الأزدي"، و"ابن الخطيب".
وعند ما أسند كتاب المقامات الأندلسيون أعمالهم إلى أنفسهم صراحة جعلوا مقاماتهم تقترب إلى الواقعية أكثر، كما أنهم تحرروا من أغلال التقليد، حيث أسقطوا بعض أسس المقامات كالراوي أو البطل -كما سيأتي إن شاء الله.
وأرى أنهم كانوا يسعون بذلك إلى رسم هوية للمقامة الأندلسية فكان ذلك مرحلة في تجديد فن المقامة العربية.