البحار المتفرعة من البحر الأبيض المتوسط: شرايين الحياة والتاريخ
يُعد البحر الأبيض المتوسط، أو ما يُعرف بـ "بحر الروم" في التاريخ العربي، قلب العالم القديم ومهد الحضارات. لم يكن هذا البحر مجرد مساحة مائية شاسعة، بل كان وما زال شريان حياة يربط القارات الثلاثة (آسيا، أفريقيا، أوروبا) ببعضها، ومنه تتفرع عدة بحار ومضائق تلعب أدوارًا حيوية في الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد. تُعرف هذه البحار المتفرعة بكونها امتدادات طبيعية للبحر الأبيض المتوسط، كلٌّ منها له خصائصه الفريدة وتأثيره الخاص.
1. البحر الأدرياتيكي (Adriatic Sea):
- الموقع: يقع بين شبه الجزيرة الإيطالية وشبه جزيرة البلقان.
- الدول المطلة: إيطاليا، سلوفينيا، كرواتيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، ألبانيا.
- الأهمية:
- تاريخيًا: كان ممرًا بحريًا حيويًا للإمبراطورية الرومانية وجمهورية البندقية.
- اقتصاديًا: يشتهر بكونه منطقة صيد غنية، ووجهة سياحية شهيرة بشواطئه الخلابة وجزره المتناثرة، خاصة على الساحل الكرواتي. الموانئ مثل البندقية وترييستي (إيطاليا)، وسبليت ودبروفنيك (كرواتيا) تعد مراكز تجارية هامة.
- جيولوجيًا: يتميز بعمقه الضحل نسبيًا في الجزء الشمالي، ويزداد عمقه كلما اتجهنا جنوبًا.
2. بحر إيجه (Aegean Sea):
- الموقع: يقع بين شبه الجزيرة اليونانية والأناضول (تركيا).
- الدول المطلة: اليونان وتركيا.
- الأهمية:
- تاريخيًا وثقافيًا: مهد الحضارتين الإغريقية والرومانية، ومليء بالجزر الأسطورية والتاريخية مثل كريت، رودس، ديلوس، وسانتوريني. لعب دورًا محوريًا في الأساطير اليونانية القديمة.
- اقتصاديًا: السياحة هي الصناعة الأبرز في بحر إيجه، حيث يجذب ملايين الزوار سنويًا. كما يعد منطقة صيد هامة.
- جيولوجيًا: يتميز بالعديد من الجزر والأرخبيلات، مما يجعله بحرًا ذا تضاريس بحرية معقدة.
3. البحر الأيوني (Ionian Sea):
- الموقع: يقع جنوب البحر الأدرياتيكي وغرب اليونان وجنوب شرق إيطاليا (صقلية).
- الدول المطلة: إيطاليا، اليونان، ألبانيا.
- الأهمية:
- تاريخيًا: جزء من الطرق التجارية القديمة التي ربطت اليونان القديمة وإيطاليا.
- اقتصاديًا: يعتبر منطقة صيد نشطة، وممرًا ملاحيًا هامًا للسفن التجارية. كما تشكل جزر البحر الأيوني اليونانية (مثل كورفو وزاكينثوس) وجهات سياحية شعبية.
- جيولوجيًا: يشتهر بكونه أعمق جزء في البحر الأبيض المتوسط، حيث توجد به أعمق نقطة فيه (كاليبسو ديب).
4. بحر ليغوريا (Ligurian Sea):
- الموقع: يقع شمال غرب البحر الأبيض المتوسط، بين الساحل الإيطالي (ليغوريا وتوسكانا) وجزيرة كورسيكا.
- الدول المطلة: إيطاليا وفرنسا (كورسيكا).
- الأهمية:
- تاريخيًا: كانت جنوة، إحدى أهم موانئه، قوة بحرية وتجارية عظمى في العصور الوسطى وعصر النهضة.
- اقتصاديًا: ميناء جنوة يعد من أهم الموانئ الإيطالية وأكثرها ازدحامًا. الساحل الليغوري، المعروف باسم "الريفيرا الإيطالية"، وجهة سياحية عالمية.
- جيولوجيًا: يتميز بساحله الوعر والمناطق الجبلية المطلة عليه.
5. بحر البليار (Balearic Sea) أو البحر الإيبيري:
- الموقع: يقع غرب البحر الأبيض المتوسط، بين الساحل الشرقي لإسبانيا وجزر البليار.
- الدول المطلة: إسبانيا.
- الأهمية:
- اقتصاديًا: تعتبر جزر البليار (مايوركا، مينوركا، إيبيزا، فورمنتيرا) وجهة سياحية رئيسية على مستوى العالم، وتجذب الملايين من السياح سنويًا.
- بيئيًا: يضم مناطق بحرية غنية بالتنوع البيولوجي، ومناطق محمية للحفاظ على الحياة البحرية.
6. بحر صقلية (Sicilian Sea):
- الموقع: يقع بين صقلية وشمال أفريقيا، ويربط بين الحوضين الشرقي والغربي للبحر الأبيض المتوسط.
- الدول المطلة: إيطاليا (صقلية)، تونس، مالطا.
- الأهمية:
- استراتيجيًا: يعتبر ممرًا بحريًا حيويًا لعبور السفن بين شرق وغرب المتوسط.
- تاريخيًا: شهد العديد من الأحداث التاريخية والمعارك البحرية على مر العصور بسبب موقعه الاستراتيجي.
- اقتصاديًا: مهم للصيد وحركة الملاحة التجارية.
7. البحر الليبي (Libyan Sea):
- الموقع: يقع جنوب جزيرة كريت وشمال الساحل الليبي.
- الدول المطلة: اليونان (كريت)، ليبيا.
- الأهمية:
- تاريخيًا: كان جزءًا من الطرق البحرية التجارية القديمة التي ربطت مصر القديمة وباقي الحضارات.
- اقتصاديًا: مناطق صيد هامة، وقد يكون له أهمية مستقبلية في استكشافات الغاز الطبيعي.
8. البحر الميرتوي (Myrtoan Sea):
- الموقع: يقع بين جزر سيكلاديس في اليونان والبر الرئيسي لليونان (البيلوبونيز).
- الدول المطلة: اليونان.
- الأهمية: جزء من بحر إيجه، ويشتهر بمناظره الطبيعية الخلابة وجزره السياحية.
9. بحر كريت (Cretan Sea):
- الموقع: يقع شمال جزيرة كريت وجنوب جزر سيكلاديس.
- الدول المطلة: اليونان.
- الأهمية: جزء من بحر إيجه، وله أهمية سياحية وصيدية لجزيرة كريت.
10. بحر مرمرة (Sea of Marmara):
- الموقع: يقع بين بحر إيجه والبحر الأسود، ويربطهما بمضيق الدردنيل والبوسفور.
- الدول المطلة: تركيا.
- الأهمية:
- استراتيجيًا: ممر مائي حيوي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط، ويعد نقطة اختناق بحرية ذات أهمية جيوسياسية كبرى.
- اقتصاديًا: يضم ميناء إسطنبول، أحد أهم الموانئ في المنطقة.
- جيولوجيًا: بحر داخلي يقع بالكامل ضمن الأراضي التركية، ويشتهر بكونه يقع على صدع شمال الأناضول النشط زلزاليًا.
11. البحر الأسود (Black Sea):
- الموقع: يقع شمال الأناضول وشرق البلقان.
- الدول المطلة: تركيا، بلغاريا، رومانيا، أوكرانيا، روسيا، جورجيا.
- الأهمية:
- استراتيجيًا: له أهمية جيوسياسية كبرى كمنطقة عسكرية وتجارية، خاصة في سياق الطرق البحرية التي تربط أوروبا بآسيا.
- اقتصاديًا: يتميز بكونه منطقة غنية بالنفط والغاز الطبيعي، وممرًا هامًا للشحن التجاري، وموطنًا لصناعات صيد الأسماك.
- بيئيًا: يتميز بطبقتين مائيتين مختلفتين، حيث الطبقة العميقة خالية من الأكسجين تقريبًا.
12. بحر آزوف (Sea of Azov):
- الموقع: بحر داخلي ضحل يقع شمال البحر الأسود، ويتصل به عبر مضيق كيرتش.
- الدول المطلة: روسيا وأوكرانيا.
- الأهمية:
- اقتصاديًا: منطقة صيد غنية جدًا بالأسماك.
- استراتيجيًا: له أهمية عسكرية واستراتيجية في الصراع الروسي الأوكراني.
- جيولوجيًا: أضحل بحر في العالم، مما يجعله عرضة للتجمد في الشتاء.
13. البحر الشامي (Levantine Sea):
- الموقع: يقع في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، ويحدها تركيا، سوريا، لبنان، فلسطين، إسرائيل، مصر، وقبرص.
- الدول المطلة: تركيا، سوريا، لبنان، فلسطين، إسرائيل، مصر، قبرص.
- الأهمية:
- تاريخيًا: مهد الحضارات القديمة مثل الفينيقيين والمصريين واليونانيين والرومان.
- اقتصاديًا: اكتشافات الغاز الطبيعي الهائلة في السنوات الأخيرة زادت من أهميته الجيوسياسية والاقتصادية بشكل كبير.
- جيولوجيًا: جزء عميق من البحر الأبيض المتوسط.
المضائق الحيوية: مفاتيح البحار المتفرعة
لا تكتمل الصورة دون ذكر المضائق التي تربط هذه البحار بالبحر الأبيض المتوسط أو ببعضها البعض:
- مضيق جبل طارق: يربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، ويعتبر البوابة الغربية للبحر الأبيض المتوسط.
- مضيق الدردنيل: يربط بحر إيجه ببحر مرمرة.
- مضيق البوسفور: يربط بحر مرمرة بالبحر الأسود.
- قناة السويس: ممر ملاحي صناعي يربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، وبالتالي بالمحيط الهندي.
- مضيق كيرتش: يربط البحر الأسود ببحر آزوف.
خلاصة:
إن البحار المتفرعة من البحر الأبيض المتوسط ليست مجرد تجمعات مائية فرعية، بل هي كيانات جغرافية وتاريخية واقتصادية بحد ذاتها. لقد شكلت هذه البحار عبر العصور مسار الحضارات، ومراكز للتجارة والصيد، وميادين للصراعات والتحالفات. وما زالت اليوم تلعب دورًا حيويًا في الاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية، مما يؤكد على الأهمية المحورية للبحر الأبيض المتوسط كشريان نابض بالحياة في قلب العالم.