الحوار في التربية .. الحوار المنهجي مفيد في إيصال الفكرة للآخرين

(الحوار المنهجي مفيد في إيصال الفكرة للآخرين، وحين نمارس الحوار على وجهه الصحيح؛ فإننا لا نفيد المتربي وحده بل نحن نستفيد منه أكثر؛ فمن خلال الحوار والنقاش تنضج أفكارنا ويرتقي تفكيرنا وتتزن نظرتنا. إننا حين نعرض أفكارنا للتشذيب والتهذيب والإضافة والنقد؛ نكون أكثر معرفةً للواقع وأقدر على التعامل معه.
ـ الحوار يزيد من قبول المتربي للمربي؛ حيث يشعر أن المربي لا يمارس معهم نوعاً من إلغاء الشخصية.
وحـين نطالب بالحوار؛ فإننـا نقصــد القيـام بدور المُحـاور لا المناظِر؛ فهناك فرق كبير بينهما؛ فالمناظِر يبغي إقناع صاحبه برأيه ليتبناه، بينما المحاور يقوم بإضاءة نقطة مظلمة، وتوضيح قضية غامضة لا يراها المُحاور الآخر على الوجه الصحيح، وبهذا يكون الحوار هادئاً ومنتجاً؛ لأنه يستهدف النفع المتبادل وليس الاستحواذ والاستيلاء..).
ـ إن من المهم جداً أن نجعل الحــوار أســاساً في حياتنا، لا سيما في المجال التربوي، فلا نفرض الأمــور فرضاً جـازماً لا يقبل المناقشة. لقــد كانت النســاء مـن أصحاب النبــي -صلى الله عليه وسلم- لا يجدن حرجاً في مراجعته المرة تلو الأخرى في أي شأن من شؤونهن، فضلاً عن الرجال، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]، إنه الشعور بالأمن بين المربي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- وبين الأمة، والذي ينظر في سيرته -صلى الله عليه وسلم- يجد ما يشفي ويكفي في هذا الباب. هذا ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: «إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك. فقال -صلى الله عليه وسلم-: سل عما بدا لك. فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: صدق. فلم يزل يسأل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يجيبه على ما سأل حتى رجع ضمام إلى قومه مسلماً»، إنك لتعجب وأنت تطالع مثل هذا المثال؛ فمع الجفــاف في أســلوب ضمــام ـ زعم، وتزعم.. ـ إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقابل ذلك كله بهدوء نفس وحسن إجابة.
(وهذا حصين بن عبيد يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولَـمَّا يسلم بعدُ، فيبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- معه حواراً منطقياً: «كم تعبد يا حصين؟! قال: سبعة: واحداً في السماء وستة في الأرض. قال: يا حصين من تعد من هؤلاء السبعة لرغبتك ورهبتك؟! قال: الذي في السماء..»، وبمثل هذا الحوار تُزال الشبهة ويُصحح التصور!
ـ ويذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف ذات عبر) ما جرى في إحدى البلاد: أن فتاةً صغيرة جاءت من المدرسة يوماً وعلامات الحزن والهمّ بادية على نفسها، فلاحظت أمها ذلك فسألتها: ما السبب يا بنيتي؟
قالت الطفلة: إن مدرّستي هددتني بالطرد إن أنا عدت بهذه الملابس الطويلة غداً، قالت الأم المربية: ولكنها الملابس التي يريدهــا الله يا بنيتي! قالت الطفلة: نعم يا أمــاه! ولكن المدرّسة لا تريد ذلك. عندها قالت الأم بعبارة حانية وحوار هادئ: حسناً يا بنيتي! المدرّسة لا تريد والله يريد؛ فمن تطيعين؟! أفتطيعين الذي أوجدك وصوَّرك وأنعم عليك.. أم مخلوقة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعا؟
فقالت الطفلة: بل أطيع الله. قالت الأم: أحسنت يا بنيتي وأصبت.
بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب المقنع الذي يؤكد الثوابت ويقيم القيم جرى الحوار الهادئ بين الأم والطفلة؛ فماذا كانت النتيجة؟
في اليوم التالي: جاءت البنت إلى المدرسة بالثوب الطويل، فانفجرت المعلمة غاضبة مؤنبة للفتاة أمام زميلاتها، حتى ثَقُلَ الأمر بالطفلة فهُرعت بالبكاء الذي لا ينقطع، وعندها هدأت المعلمة وخفّضت من صوتها، وقطعت صراخها، ثم توجهت إلى الطفلة قائلةً: لِمَ لا تستجيبين لما أمرتك به؟!
فنطقت الطفلة بكلمة الحق التي صارت كالقذيفة على هذه المعلمة: والله! ما أدري من أطيع: أنت، أم هو؟! قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت الطفلة: الله.. أأطيعك فألبس ما تريدين، أم أطيعه وأغضبك؟! ثم قالت بكل ثبات: سأطيعه ـ سبحانه ـ وليكن ما يكون.. فسكتت المعلمة... وفي اليوم التالي: دعت المعلمة الأم لتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي!
لقد كان هذا الثبات من هذه الطفلة نتاج القناعات التي رسخت في نفسها من جراء هذا الحوار المثير الذي قامت به الأم؛ فهل نحاور أبناءنا وطلابنا ومن نقوم على تربيتهم من أجل أن نبني في نفوسهم قناعات لا تتزعزع، وثوابت لا تتغير تكون أكثر صموداً في زمن المتغيرات والفتن؟
ـ ثم إن الحاجة تعظم إلى الحوار والمراجعة حال معالجة الأخطاء؛ إذ لا بد منه لأجل التعرف على ملابسات الخطأ وأسبابه قبل إصدار الأحكام؛ وذلك من أجل تجنب ردود الأفعال السريعة التي تفسد أكثر مما تصلح، وتزيد من اتساع الهوة بدلاً من تضييقها.
جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- شاب ممتلئ شباباً وقوةً وشهوةً يستأذن في الزنى؛ فهل رجمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ضربه؟ لا؛ فالأمر يحتاج إلى نوع إقناع، وفتح لعين المخطئ إلى جوانب قد غفل عنها.. وهذا هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الشاب؛ حيث قال له: ادنُ مني. (إشعاراً له بالأمن)، فلما دنا قال له: أترضاه لأمك..؟! لأختك..؟! لابنتك..؟! والشاب يقول: لا.. لا.. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرد عليه بقوله: (وكذلك الناس لا يرضونه..)، فيا له من حوار هادئ وإقناع منطقي آتى أكله وأعطى ثماره!
وكذا كان الأمر مع حاطب بن أبي بلتعة في القصة المشهورة في أحداث غزوة الفتح؛ فهل نحن نفتح حلقات للحوار عند معالجة أخطاء أبنائنا وطلابنا؟
حين تكتشف أن ابنك يدخن مثلاً، أو يسمع الغناء، أو يجلس مع رفقة سيئة؛ فإنك قد ترفع العصا عليه فتوجع يده أو تضرب هامته، وتتبع ذلك بصيحات الوعيد وزمجرات التهديد، وتظن أنك قد قضيت على المشكلة، لكنها في الحقيقة تزداد تجذراً في نفسه ورسوخاً قد يحمله على التحدي والعناد، بينما لو فتحت عينيه بالحوار الهادئ إلى شيء لم يدركه؛ فإنك على أقل تقدير إن لم تقض على المشكلة فستوقف مدها، أو تجعله يتعامل بحذر قد يسهم باستيقاظه فيما بعد، وتنبعث في نفسه أسئلة تحتاج إلى إجابة.. وحين نقول ذلك فلسنا نعارض العقوبة ونمنع منها؛ لكنّا نحاول حصرها في مكانها الصحيح الذي تفيد منه.
أما حين نفرض الأمور فرضاً جازماً ونلغي مساحة الحوار والنقاش المفيد؛ فإننا قد نوجه الظاهر من شخصية المتربي بحكم السلطة والنفوذ، لكننا سنكون بعيدين كل البعد عن الشعور الداخلي وتغيير القناعات؛ مما قد يسبب تمرداً ـ إن صح التعبير ـ في المستقبل القريب أو البعيد متى ما وجدت الفرصة مواتية لذلك، وكما في المثال الإنجليزي: (من السهل قيادة الحصان إلى نبع الماء، ولكن من الصعب إجباره على أن يشرب).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال