التربية الإسلامية والاهتمام بالكليات قبل الجزئيات والأصول قبل الفروع



يخطئ المربون آباء وأمهات وأساتذة وغيرهم عندما يسرفون في حشر أذهان الأبناء والتلاميذ بالمعلومات الجزئية النظرية، ظانين أن الذكاء والنماء الفكري والتربوي مرهون باستيعاب تلك المعلومات على كثرتها، ويخرج المتربي إلى حيز الواقع الاجتماعي بعد ذلك فلا يكون لتلك المعلومات والأمثلة والحكايات والشواهد أثر في واقعه فتتلاشى كل تلك الجزئيات لاصطدامها بواقع مغاير لاتجاهها لا تقوى وهذه حالها على مواجهته.

ولو أن مناهجنا سلكت مسلك غرس المفاهيم والموازين العامة، لكانت أفكارُ وسلوكيات وواقع شبابنا ومجتمعه غير ما هي عليه اليوم، خصوصاً إذا عاشت هذه المبادئ في ظل واقع يسمح لها بالتحرك والنماء والعطاء.

فلو درس الأبناء مفهوماً كمفهوم الطاعة مثلاً، وعلموا حدوده وصاحب الحق فيه وتسلسله من الله ورسوله ص إلى أئمة المسلمين وإلى الوالدين والأساتذة والمربين وإلى كل من له مسؤولية تجاه غيره.. ولو فهموا مبدأ التضحية والإخلاص والعدل والعزة والكرامة لعلموا كم تبنى في الأبناء من معان سامية إذا واكبتها همة تربوية عالية يتسع صدرها لبناء هذه المفاهيم مجردة غير متأثرة بالواقع.

وإذا كان من السهل تأصيل هذه المفاهيم وبلورتها، فإنه من الصعوبة بمكان أعطاء المفاهيم كنظريات لا صلة لها بواقع الناس وحياتهم اليومية اجتماعية واقتصادية وإدارية وسياسية.

إن هذه المفاهيم والمبادئ تحتاج إلى مناخ اجتماعي يتلاءم وأبعادها،مناخ تزاول فيه الطاعة – مثلاً – أقصى مداها وحدودها،ويزاول الإخلاص والتضحية والعدل والعزة والكرامة وغيرها أبعادها وأقصى آمادها.

وليس شرطاً أن يكون المناخ الاجتماعي سليماً لا عوج فيه حتى تعيش هذه المفاهيم وتنمو،بل المطلوب أن يسمح لهذه المفاهيم أن تعمل عملها، ولو كان المجتمع فاسداً إلى أقصى درجات الفساد، فإن هذه المفاهيم ستأخذ طريقها ضد هذا التيار وستلوي عنقه لياً في نهاية المطاف كي يتمشى وسمت تلك المفاهيم، لأنها مفاهيم ومبادئ غالبة لا محالة، فالظلم لا يقوى على العدل، والغش لا يقاوم طويلاً الإخلاص،والأنانية لا تقاوم التضحية ،والذل لا يصرع العزة...

ولكن داهية الأمر – فيما إذا سلكنا مسلك المبادئ والمفاهيم والموازين كأسلوب للعمل التربوي – أن المجتمعات المعاصرة تريد من هذه المبادئ أن تحمي الواقع الخاطئ لمساراتها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والسياسية وغيرها، وسيكون لتلك المفاهيم والمبادئ، في ظل هذه النظرة، نفس قوتها الفعالة السابقة ولكنها قوة في جانب السلب ومع التيار الاجتماعي الخاطئ لا ضده، فالطاعة حين تقطع من أصلها الأول تصبح طاعة عمياء محدودة مبتذلة تعني التملق والمحسوبية وتنمي في الفرد الذل والخذلان والانكسار، وتقتل همة الترقي، وتصبح التضحية تضحية لتعميق الواقع الآثم، وكذلك تجهز العدالة على بقية العدالة لأنها ستضفي على الباطل أصباغَ ومساحيقَ العدالة الزائفة وهكذا ستصبح العزة نذالة وذلاً ومهانة لأنها ستكون عزة بمقدار القرب من القائمين على هذا الواقع الخاطئ.

فلا بد لتعديل المسار التربوي من هذين الأمرين:بناء الشبيبة وفق المبادئ والموازين المستقاة من نبع عقيدتنا، ولا بد ثانياً من ترك تلك الموازين والمبادئ تعالج عن طريق هذا الشباب الواقع الاجتماعي،وسنرى بعد ذلك عجباً...

سنرى ذاك العجب الذي حققه مربي البشرية ورسولها محمد (ص) الذي أرسى هذا المنهج في التربية بوحي الله وتوجيه القرآن الكريم، فسلك أسلوب التربية في غرس المبادئ والموازين وإهدار الجزئيات، ثم ترك تلك البناءات التربوية من الرجال والنساء تعمل عملها وفق تلك المبادئ ضد تيار المجتمع في جميع أطره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

واستطاع النبي (ص) بهذا المنهج أن يربي – لا أطفالاً يتعهدهم من الصغر – بل رجالاً متعصبين استمرؤوا واعتادوا حياة الجاهلية ونمت في وجدانهم وسرت في دمائهم، وإذا كان من الصعب أن تغير عادة ما في المجتمع، فما بالك بتغيير حياة اجتماعية بكاملها!! بعاداتها وتقاليدها وأوضاعها وأفكارها واعتقاداتها،لقد استطاع النبي (ص) بهذا المنهج أن يغير ذلك الواقع كله.. بل ويغير وجدانهم ويجدد دماءهم ويصنع منهم أمة تذكر على مر التاريخ صنعها في فترة زمنية خيالية... وبغير هذا الأسلوب تحتاج الأمم إلى قرون كي يكتمل لها البناء ولن يكتمل.

فلا بد من وقفة تربوية لواقع مناهجنا وأساليبها، كي تعدل وفق غرس المبادئ والموازين أولاً – وتأخير الجزئيات[1].

[1]- انظر سمات التربية الإسلامية وطرقها -أ.د. عجيل جاسم النشمي