في "طريق الحرير الجديد" أو الوضع الجيواستراتيجي الفعلي للبلقان والقوقاز.. الأمن الأوربي والضرورة الحيوية للسيطرة على ملتقى الطرق الاستراتيجي



يمكن القول، بصورة إجمالية، إن الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في البلقان وفي القوقاز، هي التالية:
**  منع كل انتشار لروسيا في البلقان، وفي قطع من البحر الأبيض المتوسط.
** حجز الممرات الأوربية والروسية، نحو مصادر النفط في الجمهوريات الإسلامية، في الاتحاد السوفياتي السابق. أي السيطرة على "طريق الحرير الجديد" المؤدي إلى منابع الغاز والنفط، حتى مخارجها الغربية.
**  توسيع وتعزيز دور منظمة حلف شمالي الأطلسي، كشرطي لخدمة الولايات المتحدة.
**  إقامة تشكيل إجمالي من قواعد للولايات المتحدة في الجنوبـ الشرقي لأوربا، ليصبح من السهل التدخل انطلاقاً منه نحو أربعة اتجاهات رئيسة: أوربا الغربية، الشرق الأوسط، مجموعة الدول المستقلة، البلقان، وهو ملتقى طرق استراتيجي بالنسبة لواشنطن".
يتم عادة الإقلال من الدور الاستراتيجي للبلقان، وجميع المناطق الجنوبيةـ الشرقية الأوربية، لكونها غالباً نقطة عبور رئيسة وأساسية بين أوربا الغربية والقوقاز وآسيا الوسطى. وتمثل يوغوسلافيا السابقة، في الواقع، موقعاً استراتيجياً في طرق المواصلات البلقانية. فهي تقع على مفترق طرق أوربية استراتيجية ثلاثة: طريق الدانوب، والطريق نحو الشمال، وطريق الجنوب عبر الجبال البلقانية، ثم إن الطريق (شرقـ غرب)، عبر هذه الجبال نفسها. اللذين، تسيطر عليهما مقدونيا، هو ما يدفع واشنطن للتخلي عن يوغوسلافيا منذ عام (1992)، وتصبح مقدونيا، إحدى قواعد منظمة حلف شمالي الأطلسي، وشريطا للسلام في البلقان، منذئذٍ فإن التجارة وحركة المرور النهريةـ الدانوبية، هي في الواقع، أحد الطرق القارية الاستراتيجية، داخل أوربا، والأكثر أهمية، لأنها تشكل جزءاً مكملاً لسياسة أوربية كبرى مستقلة، مُقَيّدَةً احتكار النقل البحري، في البحر الأبيض المتوسط، وقفاً على الإنجليز، والممولين في لندن. فالدانوب بطوله (2850 كيلو متر)، هو النهر الأطول في أوربا، دون روسيا. ويشكل دون أدنى شك، طريق النقل في المستقبل، مع تجنب مشاكل التلوث التي تزيد من أهمية النقل النهري وفوائده. في الواقع، إذا اشتركت ألمانيا، وإلى درجة ما، في تفتيت يوغوسلافيا السابقة، فإن تلك المساهمة تجعل لها قاعدة رئيسة مع الولايات المتحدة في البلقان وهذا أيضاً سبب لكي تفضل القنال الجديد الذي يربط الراين بالدانوب. وقد تجري حساباً أنها ستحصل على طريق اتصالات رخيص، ويسمح لبواخرها من وزن (3000) طن، بربط بحر الشمال، والبلطيق، بالبحر الأبيض المتوسط، ثم بالبحر الأسود. إنه لأمر جيد أيضاً، أن لا يؤدي ذلك إلى الاستفادة من طريق مباشر واقتصادي نحو منابع النفط في الشرق الأوسط، وفي البحر القزويني وكازاخستان. كذلك نشير باختصار إلى أن قصف الجسور الاستراتيجية الرئيسة على الدانوب، أثناء عمليات لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، في كوسوفو وفي يوغوسلافيا السابقة، قد ساهم، في الواقع، ليس بإحداث خطأ، كالأضرار الجانبية، بل الإرادة المتعمدة لإلحاق الأذى بالطريق النهري في الدانوب، من جانب الولايات المتحدة، بانتظار الحصول على مكان هناك، لصالح خطة مارشال "بلقانية لاحقاً".
وقلة من المراقبين الغربيين قدّروا أهمية المؤتمر الذي عقد تحت رعاية الأمم المتحدة "في السادس والسابع من شهر أيلول عام (1991)" حول موضوع البلقان، والذي يحمل عنوان: "الأمن الأوربي في تسعينيات القرن العشرين. ومشكلات جنوب ـ شرقي أوربا" والذي صدر عنه قرار ينص على أنه يجب أن تعتبر السيطرة على ملتقى الطرق الاستراتيجي هذا ضرورة حيوية. "فالبلقان مناطق مجاورة للاتحاد السوفياتي السابق ثم الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، وهي ثلاثة مجالات ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للغرب (...) وتقدم شبه الجزيرة البلقانية والمضائق التركية، وامتداداتها، التي هي الجزر اليونانية في بحر إيجة، تقدم موقعاً استراتيجياً يسمح بالسيطرة على مخارج الأسطول السوفياتي من البحر الأسود (...). ويوغوسلافيا، هي طريق العبور الطبيعي بين أوربا الغربية وأوربا الشرقية. بل أيضاً لاجتياز اليونان وتركيا عبر شمالي أفريقيا والشرق الأوسط. هذه بعض الخطوط التي تستمر بها روسيا، لكي تعتبر خطراً يجب على الغرب أن (يحتويه)، وهي غنية بالمعلومات حول تلك الطريقة. وبالتالي، حول الدور الذي ينتظره "الغرب" والذي ستكلف به ألبانيا في البلقان، وهو يوضح بصورة أكثر، الأسباب التي من أجلها ستخصص لكوسوفو الجهود الهامة جداً عسكرياً، وأكثر من أي مكان آخر في العالم، حيث الكوارث الإنسانية هي أكثر رعباً أيضاً. فـ "ألبانيا يمكنها أن تقدم خدمة كقاعدة من أجل حصر حركة المرور البحرية في الأدرياتيك، وفي البحر الإيوني، وكذلك لانطلاق عمليات ضد اليونان ويوغوسلافيا (...) إن استراتيجية منظمة حلف شمالي الأطلسي، هي المحافظة على السيطرة، على جميع هذه البلدان، وبمقدار كونها أمكنه استراتيجية". أما نهاية التقرير، فهي مخصصة للمصادر المعدنية والاستراتيجية: "تقود التوقعات لرؤية روسيا وقد عادت إلى البلقان عن طريق الصرب، وذلك باعتمادها على البنسلفانيا، معادة التجديد، وعلى التعاون الأرثوذوكسي. وليس هذا هو المبرر الحقيقي لتدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي، كجزء قليل الفائدة من البحر الأبيض المتوسط. وكذلك هل ينظر إلى تعزيز المحور الألماني ـ التركي ـ الأمريكي في البلقان كتهديد تتخذه، موسكو، على المدى القصير، ويجب تداركه بدعم يوغوسلافيا وحلفائها في المنطقة"(29)؟ هكذا يتساءل فرانسوا تويال.
لقد كشف برززنسكي، عن استراتيجية الولايات المتحدة، عند المباشرة في الحرب في كوسوفو، أثناء مقابلة مع التلفزيون الأمريكي، في حوار مع مؤسسة سوروس والبلقان بقوله: "الواقع أن الرهانات الأكثر أهمية للغاية هي مستقبل كوسوفو". ويوافق مستشار كارتر، الرئيس السابق للولايات المتحدة، على تقسيم روسيا إلى ثلاث مناطق: أوربية وآسيوية ووسطى؛ مع فتح ممر (شرق ـ غرب) عبر البلقان والقوقاز وتركستان. ثم "هل يمكن لهذا السائل الثمين المستخرج من بحر قزوين، أن يصل مباشرة إلى الغرب، بفضل أنبوبين جديدين يجتاز أحدهما القوقاز أو تركيا، ويقطع الآخر، البلقان، خصوصاً عن طريق مقدونيا، كوسوفو، ألبانيا؟".
في الواقع، لقد استهدفت التأكيدات التي بحسبها أن البلقان المحروم من النفط، لن يصبح منطقة استراتيجية، وهي الحجة المقدمة، خلال حرب كوسوفو، والتي استهدفت التأكيد على "عدم اهتمام" الغربيين، بصورة رئيسة. إذن من أجل أن يصبح تدخل الولايات المتحدة ضد الصرب أمراً مشروعاً، تم اعتماد الفرضية القائلة: "الحرب باسم الأخلاق"، المؤكد أن عدم الربط بين الغارات الجوية والمصالح النفطية للولايات المتحدة كان أكثر صعوبة عما كان عليه الأمر في حروب الخليج ضد العراق، وإضعافه، واحتلاله وتدميره. فالعراق من الدول التي تمتلك ما تمتلكه السعودية من الاحتياطات الطبيعية تقريباً. لكن، باعتبار البلقان كطريق بري ونهري وبحري، أساسي، تقع على طول حدوده المضطربة، ثلاث حضارات، غالباً ما كانت في نزاعات فيما بينها، وباعتبار البلقان ملتقى طرق لصراعات نفوذ بين القوى العظمى، لهذا كله يعتبر البلقان منطقة استراتيجية في غاية الأهمية. فبالنسبة إلى موسكو، باستطاعة يوغوسلافيا السابقة ومقدونيا وبلغاريا، أن تشكل مع اليونان، طريقاً لمرور تبادل النفط القادم من بحر قزوين، ومن المناطق الروسية، باتجاه الغرب، عن طريق نوفوروسيسك NOVOROSSISK، خصوصاً منذ أن أغلقت تركيا مضائقها عملياً، على الرغم من أن غلقها يشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقيات مونتريو MONTREAU. وبالنسبة إلى الغرب، فإن المشتقات النفطية من بحر قزوين، ومن آسيا الوسطى، يراد لها حرمان موسكو منها. بل يجب، على العكس، تجنب مرورها بأراضي روسيا، لكن عبر تركيا، وأذربايجان، ولم لا يقع هذا ضمن مهلة محدودة؟ ومرة أخرى، في المنطقة "التي ستتبع منظمة حلف شمالي الأطلسيِ: مقدونيا، ألبانيا، كوسوفو، لتصبح المصب الغربي، و"كطريق للنفط". إذن هذا هو الذي تطمح إليه موسكو. وكذا الحال بالنسبة لواشنطن. إن تحقيق أنبوب النفط باكو ـ سيهان "أحد الرهانات النفطية" منذ التوقيع على ذلك العقد بتاريخ (18) تشرين الثاني عام (1999)، وهو بالتالي ينافس الخط الشمالي: باكو ـ نوفوروسيسك الكسندرو بوليس (ALEXENDROPOULIS) الذي تريد روسيا أن تمده نحو بلغاريا ويوغوسلافيا السابقة من أجل الوصول إلى الأسواق الغربية، دون المرور بالبوسفور، نقطة التهديد من واشنطن وأنقرة. لاستبعاد السيطرة على الطرق النفطية من قبل روسيا واليونان والقوى الأرثوذوكسية الإقليمية، كان يفهم على نحو أفضل في ضوء هذا التوضيح وإلا لماذا ستبقى يوغوسلافيا السابقة المحور الأساس لجميع الاقتصاد الدولي في أوربا الوسطى والشرقية، التي كانت تسيطر على طرق المرور الدانوبية، وستبقى الحليف الجديد لروسيا، والمقاوم لتوسيع منظمة حلف شمالي الأطلسي باتجاه أوربا الجنوبية، وتشكل العقبة التي لا تحتمل أمام التوسع الأمريكي، "على طريق الحرير الجديد"؟ (ولهذا هل يجب أن تصبح معاقبة بشدة؟"(30). هذا ما توضحه عالمة السياسة في الولايات المتحدة (ديانا جونستون) (DIANA JOHNSTONE)، الاختصاصية بشؤون البلقان لأن الحرب الجيو اقتصادية، كانت الوجه الآخر، الخفي، والبعد الآخر، "للتدخل الإنساني" في كوسوفو، مع توسع أو امتداد منظمة حلف شمالي الأطلسي باتجاه روسيا.
موسى الزعبي


المواضيع الأكثر قراءة