قال صاحبها وهو يحدثني من حديثها:
كانت فتاة متعلمة، حلوة المنظر، حلوة الكلام، رقيقة العاطفة، مرهفة الحس، في لسانها بيان ولوجهها بيان غير الذي في لسانها، تعرف فيه الكلام الذي لا تتكلم به.
ولها طبع شديد الطرب للحياة، مسترسل في مرحه، خفيف طَيَّاش، لو أثقلتَه بجبل لخف بالجبل؛ تحسبها دائمًا سكرى تتمايل من طربها، كأن أفكارها المرحة هي في رأسها أفكار وفي دمها خمر.
وكان هذا الطبع السكران بالشباب والجمال والطرب يعمل عملين متناقضين؛ فهو دلال متراجع منهزم، وهو أيضًا جرأة مندفعة متهجمة.
وهزيمة الدلال في المرأة إن هي إلا عمل حربي، مضمرة فيه الكرَّة والهجوم؛ وكثيرًا ما تُرَى فيها النظرة ذات المعنيين نظرة واحدة؛ بها تؤنبك المرأة على جراءتك معها، وبها أيضًا تَعذُلك على أنك لست معها أجرأ مما أنت!
قلت: ويحك يا هذا! أتعرف ما تقول؟
قال: فمن يعرف ما يقول إذا أنا لم أعرف؟ لقد أحببت خمس عشرة فتاة؛ بل هن أحببْنَني وفرغن قلوبهن لي، ما اعتزت علي منهن واحدة، وقد ذهبن بي مذهبًا، ولكني ذهبت بهن خمسة عشر!
قلت: فلا ريب أنك تحمل الوسام الإبليسي الأول من رتبة الجمرة, فكيف استهام بك خمس عشرة فتاة؛ أجاهلات هن، أعمياوات هن؟
قال: بل متعلمات مبصرات يرين ويدركن، ولا تخطئ واحدة منهن في فهم أن رجلًا وامرأة قصة حب, وما خمس عشرة فتاة؟ وما عشرون وثلاثون من فتيات هذا الزمن الحائر البائر، الذي كسَد فيه الزواج، ورق فيه الدين، وسقط الحياء، والتهبت العاطفة, وانتشر اللهو، وكثرت فنون الإغراء, واصطلح فيه إبليس والعلم يعملان معًا؛ وأُطلقت الحرية للمرأة، وتوسعت المدارس فيما تُقدِّم للفتيات، وأظهرت من الحفاوة بهن أمرًا مفرطًا حتى أخذن منها ربع العلم؟
قلت: وثلاثة أرباع العلم الباقية؟
قال: يأخذنها مع الروايات والسينما.
علم المدارس، ما علم المدارس؟ إنهن لا يصنعن به شيئًا إلا شهادات هي مكافأة الحفظ وإجازة النسيان من بعد؛ أما علم السينما والروايات فيصنعن به تاريخهن. ورب منظر يشهده في السينما ألف فتاة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت به الخواطر والأحلام؛ سلبهن القرار والوقار فمثَّلْنَه ألف مرة بألف طريقة في ألف حادثة!
يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة بعد واحدة، من حرية المرأة وعلمها؛ أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. وقد كان عيب الجاهلة المقصورة في دارها أن الرجل يحتال عليها، فصار عيب المتعلمة المفتوح لها الباب أنها هي تحتال على الرجل؛ فمرة بإبداع الحيلة عليه، ومرة بتلقينه الحيلة عليها. والغريب في أمر هذا العلم أنه هو الذي جعل الفتاة تبدأ الطريق المجهول بجهل!
قلت: وما الطريق المجهول؟
قال: الطريق المجهول هو الرجل، وإطلاق الحرية للفتاة أطلق ثلاث حريات: حرية الفتاة، وحرية الحب؛ والأخرى حرية الزواج، ولما انطلق ثلاثتهن معًا، تغير ثلاثتهن جميعًا إلى فساد واختلال.
أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج، فعادت للزواج في الأقل وفي الأكثر للهو والغزل؛ وكان لها في النفوس وقار الأم وحرمة الزوجة، فاجترأ عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة والساقطة؛ وكانت مقصورة لا تُنال بعيب ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت إليها العيوب بأقدام كثيرة, وكانت بجملتها امرأة واحدة، فعادت مما ترى وتعرف وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى، وأعصابها امرأة ثالثة.
وأما الحب، فكان حبًّا تتعرف به الرجولة إلى الأنوثة في قيود وشروط، فلما صار حرًّا بين الرجولة والأنوثة، انقلب حيلة تغترّ بها إحداهما الأخرى؛ ومتى صار الأمر إلى قانون الحيلة، فقد خرج من قانون الشرف، ويرجع هذا الشرف نفسه كما نراه، ليس إلا كلمة يحتال بها.
وأما الزواج، فلما صار حرا جاء الفتاة بشبه الزوج لا بالزوج, وضعُفت منزلته، وقل اتفاقه، وطال ارتقاب الفتيات له، فضعف أثره في النفس المؤنثة؛ وكانت من قبل لفظتا "الشاب، والزوج" شيئًا واحدًا عند الفتاة وبمعنى واحد، فأصبحتا كلمتين متميزتين؛ في إحداهما القوة والكثرة والسهولة، وفي الأخرى الضعف والقلة والتعذر؛ فالكل شبان وقليل منهم الأزواج؛ وبهذا أصبح تأثير الشباب على الفتاة أقوى من تأثير الشرف، وعاد يقنعها منه أخس برهاناته، لا بأنه هو مقنع، ولكن بأنها هي مهيأة للاقتناع.
وفي تلك الأحوال لا يكون الرجل إلا مغفلًا في رأي المرأة, إذا هو أحبها ولم يكن محتالًا حيلة مثله على مثلها، ويظل في رأيها مغفلًا حتى يخدعها ويستزلها؛ فإذا فعل كان عندها نذلًا لأنه فعل, وهذه حرية رابعة في لغة المرأة الحرة والزواج الحر والحب الحر!
وانظر -بعيشك- ما فعلت الحرية بكلمة "التقاليد"، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهه حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها فجعلتها في هذا العصر أشهر كلمة في الألسنة، يُتهكم بها على الدين والشرف وقانون العرف الاجتماعي في خوف المعَرَّة والدنيئة والتصاون من الرذائل والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك "تقاليد".
وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، وأجرينها في اعتبارهن مكروهة وحشية، وأضفن إليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند أكثر المتعلمات من "التقاليد" أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهل العصر وحماقته، وفجوره وإلحاده؟ أهي كلمة تعلقها الفتيات المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة ما يحببن؟
"تقاليد"؟ فما هي المرأة بدون التقاليد؟ إنها البلاد الجميلة بغير جيش، إنها الكنز المخبوء معرضًا لأعين اللصوص، تحوطه الغفلة لا المراقبة. هب الناس جميعًا شرفاء متعففين متصاونين؛ فإن معنى كلمة "كنز" متى تُركت له الحرية وأغفل من تقاليد الحراسة، أوجدت حريته هذه بنفسها معنى كلمة "لص".
قال صاحبنا: أما الفتاة المحررة من "التقاليد" كما عرفتُها فهي هذه التي أقص عليك قصتها، وهي التي جعلتني أعتقد أن لكل فتاة رشدين, يثبت أحدهما بالسن، ويثبت الآخر بالزواج. ولو أن عانسًا ماتت في سن الخمسين أو الستين لوجب أن يقال: إنها ماتت نصف قاصر! ولعل هذا من حكمة الشريعة في اعتبار المرأة نصف الرجل، إذ تمام شرفها الاجتماعي أن يكون الرجل مضمومًا إليها في نظام الاجتماع وقوانينه؛ فالزوج على هذا هو تمام رشد الفتاة بالغة ما بلغت.
وأساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي، ومن هذا كانت هي المصنع الذي تُصنع فيه الحياة، وكانت دائمًا ناقصة لا تتم إلا بالآخر الذي أساسه في الطبيعة شأن عقله وشأن قوته.
واعتبرْ ذلك بالمرأة تدرس وتتعلم وتنبُغ، فلو أنك ذهبت تمدحها بوُفُور عقلها وذكائها، وتقرظها بنبوغها وعبقريتها، ثم رأتك لم تلق كلمة ولا إشارة ولا نظرة على جسمها ومحاسنها؛ لتحول عندها كل مدحك ذمًّا، وكل ثنائك سخرية؛ فإن النبوغ ههنا في أعصاب امرأة تريد أن تعرف مع أسرار الكون أسرار كونها هي، هذا الكون البدني الفاتن، أو الذي تزعمه هي فاتنًا، أو الذي لا ترضاه ولا ترضى أن تكون صاحبته إلا إذا وجدت من يزعم لها أنه كون فاتن بديع، مزين بشمسه وقمره وطبيعته المتنضرة التي تجعل مسه مس ورق الزهر.
مثل هذه إنما يكون الثناء عندها حينما يكون أقله باللسان العلمي ولغته، وأكثره بالنظر الفني ولغته. وهذا على أنها عالمة الجنس ونابغته، ودليل شذوذه العقلي، والواحدة التي تجيء كالفلتة المفردة بين الملايين من النساء؛ فكيف بمن دونها، وكيف بالنساء فيما هن نساء به؟
دع جماعة من العلماء يمتحنون هذا الذي بينت لك، فيأتون بامرأة جميلة نابغة, فيضعونها بين رجال لا تسمع من جميعهم إلا: ما أعقلها، ما أعقلها، ما أعقلها! ولا ترى في عيني كل منهم من أنواع النظر وفنونه إلا نظر التلميذ لمعلمة في سن جدته. فهذه لن تكون بعد قريب إلا في حالة من اثنتين: إما أن يخرج عقلها من رأسها، أو... أو تخرج في وجهها لحية!
"ما أعقلها!" كلمة حسنة عند النساء لا يأبينها ولا يذممنها، غير أن الكلمة البليغة العبقرية الساحرة، هي عندهن كلمة أخرى، هي: "ما أجملها!"؛ إن تلك تشبه الخبز القَفَار لا شيء معه على الخِوَان، أما هذه فهي المائدة مزينة كاملة بطعامها وشرابها وأزهارها وفكاهتها وضحكها أيضًا.
وكأن العقل الإنساني قد غضب لمهانة كلمته وما عرَّها به النساء، فأراد أن يثبت أنه عقل، فاستطاع بحيلته العجيبة أن يجعل لكلمة: "ما أعقلها" كل الشأن والخطر، وكل البلاغة والسحر، عند... عند الطفلة.... تفرح الطفلة أشد الفرح، إذا قيل: ما أعقلها!
فقلت لمحدثي: كأنك صادق يا فتى! لقد جلست أنا ذات يوم إلى امرأة أديبة لها ظرف وجمال، وجاءت كبريائي فجلست معنا, وكانت "التقاليد" كالحاشية لي؛ فعلمت بعد أنها قالت لصاحبة لها: "لا أدري كيف استطاع أن ينسى جسمي وأنا إلى جانبه، أذكِّره أني إلى جانبه! لكأنما كانت لقلبه أبواب يفتح ما شاء منها ويغلق".
قال محدثي: فهذا هذا؛ إن إحساس المرأة بالعالم وما فيه من حقائق الجمال والسرور, إنما هو في إحساسها بالرجل الذي اختارتْه لقلبها، أو تهم أن تختاره، أو تود أن تختاره؛ ثم إحساسها بعد ذلك بالصور الأخرى من رجُلها في أولادها. وحياة المرأة لا أسرار فيها البتة، حتى إذا دخلها الرجل عرفت بذلك أن فيها أسرارًا، وتبينت أن هذا الجسم الآخر هو فلسفة لجسمها وعقلها.
قال: وقد جلست مرة مع صاحبة القصة، وأنا مغضب أو كالمغضب, ثم تلاحينا وطال بيننا التلاحي؛ فقالت لي: أنت بجانبي وأنا أسأل: أين أنت؟ فإنك لست كلك الذي بجانبي!
قال: ومذهبي في الحب، الكبرياء، كما قلت أنت, غير أنها الكبرياء التي تدرك المرأة منها أني قوي لا أني متكبر؛ كبرياء الرجل إما مهيب مرح يملك أفراح قلبها، وإما حزين مهيب يملك أحزان هذا القلب.
إن المرأة لا تحب إلا رجلًا يكون أول الحسن فيه حسن فهمها له، وأول القوة فيه قوة إعجابها به، وأول الكبرياء فيه كبرياءها هي بحبه وكبرياءها بأنه رجل. هذا هو الذي يجتمع فيه للمرأة اثنان: إنسانها الظريف، ووحشها الظريف!
قلت: لقد بعُدنا عن القصة, فما كان خبر صاحبتك تلك؟
قال: كانت صاحبتي تلك تعلم أني متزوج، ولكن إحدى صديقاتها أنبأتها بكبريائي في الحب، ووصفتني لها صفة الإحساس لا وصف الكلام؛ فكأنما تنبهت فيها طبيعة زَهْو الفتاة بأنها فتاة، وغريزة افتتان الأنثى بأن تكون فاتنة؛ فرأت في إخضاعي لجمالها عملًا تعمله بجمالها.
ومتى كانت الفتاة مستخفة "بالتقاليد" كهذه الأديبة المتعلمة؛ رأيت كلمة "الزوج" لفظًا على رجل كلفظ الحب عليه، فهما سواء عندها في المعنى, ولا يختلفان إلا في "التقاليد".
وعرضت لي كما يعرض المصارع للمصارع؛ إذ كانت من الفتيات المغرورات، اللواتي يحسبن أن في قوتهن العلمية تيارًا زاخرًا لنهرنا الاجتماعي الراكد؛ فتاة تخرجت في مدرسة أو كلية، أو جاءت من أوروبا بالعالمية, أفتدري أية معجزة مصرية في هذا تباهي بها مصر؟
إن المعجزة أن هذه الفتاة صارت مدرسة، أو مفتشة، أو ناظرة في وزارة المعارف؛ أو مؤلفة كتب وروايات، أو محررة في صحيفة من الصحف. ولا يصغُرَنَّ عندك شأن هذه المعجزة، فهي -والله- معجزة ما دام يتحقق بها خروج الفتاة من حكم الطبيعة عليها، وبقاؤها في الاجتماع المصري امرأة بلا تأنيث، أو انقلابها فيه رجلًا بلا تذكير!
وكيف لا يكون من المعجزات أن تأليف رواية قد أغنى عن تأليف أسرة؛ وأن فتاة تعيش وتموت وما ولدت للأمة إلا مقالات؟
فقلت: يا صاحبي، دع هؤلاء وخذ الآن في حديث الطائشة الخارجة على التقاليد، وقد قلت: إنها عرضت لك كما يعرضا لمصارع للمصارع.
قال: عرضت لي تريد أن تصرِّفني كيف شاءت، فنبوت في يدها؛ فزادت إلى رغبتها إصرارها على هذه الرغبة، فالتويتُ عليها؛ فزادت إليهما خشية اليأس والخيبة، فتعسرت معها؛ فزادت إلى هذه كلها ثورة كبريائها, فلم أتسهل؛ فانتهت من كل ذلك بعد الرغبة الخيالية التي هي أول العبث والدلال، إلى الرغبة الحقيقية التي هي أول الحب والهوى؛ رغبة تعذيبي بها لأنها متعذبة بي.
ثم ردَّتها الطبيعة صاغرة إلى حقائقها السلبية، فإذا الكبرياء فيها إنما كانت خضوعًا يتراءى بالعصيان وإذا الرغبة في تعذيب الرجل إنما كانت التماسًا لأن تنعم به، وإذا الإصرار على إخضاع الرجل وإذلاله إنما كان إصرارًا على تجرئته ودفعه أن يستبد ويملك؛ وردتها الطبيعة إلى هذه الحقيقة النسوية الصريحة التي بُنيت المرأة عليها, شاءت أم أبت، وهي أن تعاني وتصبر على ما تعاني!
أما أنا فأحببتها حبا عقليا، وكان هذا يشتد عليها؛ لأنه إشفاق لا حب؛ وكانت إذا سألتني عن أمر ترتاب فيه، قالت: أجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول: إن في عينيها بكاء لا تستطيع أن تزيله مع الدمع, وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يبكى، وقد اتخذت لها في دارها خلوة سمتها: "محراب الدمع!" قالت: لأنها تبكي فيها بكاء صلاة وحب، لا بكاء حب فقط!
ثم طاشت الطيشة الكبرى!
قلت: وما الطيشة الكبرى؟
قال: إنها كتبت إلي هذه الرسالة:
"عزيزي رغم أنفي...
لقد أذللتني بشيئين: أحدهما أنك لم تذل لي، وجعلتني -على تعليمي- أشد جهلًا من الجاهلة؛ وقد نسيت أن المرأة المتعلمة تعرف ثم تعرف مرتين: تعرف كيف تخطئ إذا وجب أن تخطئ، وهذه هي المعرفة الأولى؛ أما المعرفة الثانية فتوهمها أنت، فكأني قلتُها لك".
"اعلم -يا عزيزي رغم أنفي- أني إذا لم أكن عزيزتك رغم أنفك، فسآتي ما يجعلك سَلَفًا ومَثَلًا، وستكتب الصحف عنك أول حادث يقع في مصر عن أول رجل اختطفته فتاة!"
"وبعد، فقد أرسلت روحي تعانق روحك، فهل تشعر بها؟".
قال: فوجمتُ ساعة وتبينت لي خفتها، وظهر لي سَفَاهها وطيشها، فأسرعت إليها فجئتها فأجدها كالقاضي في محكمته، لا عقل له إلا عقل الحكم القانوني الذي لا يتغير، ولا إنسان فيه إلا الإنسان المقيد بمادة كذا إذا حدث كذا، والمادة كذا حين يكون وصف المجرم كذا!
فقلت لها: أهذا هو العلم الذي تعلمتِهِ؟ ألا يكون علم المرأة خليقًا أن يجعل صاحبته ذات عقلين إذا كانت الجاهلة بعقل واحد؟
قالت: العلم؟
قلت: نعم، العلم.
قالت: يا حبيبي، إن هذا العلم هو الذي وضع المسدس في يد المرأة الأوروبية لعاشقها، أو معشوقها! ثم أطرقت قليلًا وتنهدت وقالت: والعلم هو الذي جعل الفتاة هناك تتزوج بإرشاد الرواية التي تقرؤها ولو انقلب الزواج رواية, والعلم هو الذي كشف حجاب الفتاة عن وجهها، ثم عاد فكشف حياء وجهها، وأوجب عليها أن تواجه حقائق الجنس الآخر وتعرفها معرفة علمية, والعلم هو الذي جعل خطأ المرأة الجنسي معفوًّا عنه ما دام في سبيل مواجهة الحقائق لا في سبيل الهرب منها, والعلم هو الذي جعل المرأة مساوية للرجل، وأكد لها أن واحدًا وواحدًا هما واحد وكلاهما أول. والعلم هو الذي عرى أجسام الرجال والنساء ببرهان أشعة الشمس, والعلم - يا عزيزي- هو العلم الذي محا من العالم لفظة "أمس" لا يعرفها وإن كانت فيها الأديان والتقاليد.
قال صاحبها: فقلت لها: كأن العلم إفساد للمرأة! وكأنه تعليم معراتها ونقائصها، لا تعليم فضائلها ومحاسنها.
قالت: لا، ولكن عقل المرأة هو عقل أنثى دائمًا، ودائمًا عقل أنثى؛ وفي رأسها دائمًا جو قلبها، وجو قلبها دائمًا في رأسها؛ فإذا لم تكن مدرستها متممة لدارها وما في دارها، تممت فيها الشارع وما في الشارع.
العلم للمرأة؛ ولكن بشرط أن يكون الأب وهيبة الأب أمرًا مقررًا في العلم، والأخ وطاعة الأخ حقيقة من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئًا ثابتًا في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم. بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانع علمية للفضيلة والكمال والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة؛ لأنه يبدأ من المرأة التامة.
أما بغير هذا الشرط، فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قَذِر، هي خير للأمة من أكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب.
انظر يا عزيزي برغم أنفي، هذه رسالة جاءتني اليوم من صديقتي فلانة الأديبة الـ... فاسمع قولها:
"وأنا أعيش اليوم في الجمال؛ لأني أعيش في بعض خفايا الحبيب...".
"وفي الحياة موت حلو لذيذ؛ عرفت ذلك حينما نسيت نفسي على صدره القوي، وحينما نسيت على صدره القوي صدري...".
أسمعت يا عزيزي؟ إن كنت لَمَّا تعلم أن هذا هو علم أكثر الفتيات المتعلمات حين يكسد الزواج, فاعلمه. ومتى عمي الشعب والحكومة هذا العمى، فإن حرية المرأة لا تكون أبدًا إلا حرية الفكرة المحرَّمة!
قلت لصاحبنا: ثم ماذا؟
قال: ثم هذا. ودس يده في جيبه فأخرج أوراقًا كتب فيها رواية صغيرة أسماها: "الطائشة".
مصطفى صادق الرافعي