ما هو المعيار العام للعلاقة السببية؟.. نظرية السببية الكافية (السبب الملائم). نظرية السببية المباشرة (السبب الأقوى). نظرية تعادل الأسباب



تعريف العلاقة السببية:

إن علاقة السببية بين السلوك الخاطئ والنتيجة التي يعاقب عليها لا تثير أية صعوبة إذا كان هذا السلوك هو المصدر الوحيد لها، ولكن تدق هذه المسألة وتثير العلاقة السببية صعوبة عندما تتداخل مع سلوك السائق أسباب أخرى تسهم في إحداث النتيجة التي يعاقب عليها القانون ([1]).
بمعنى آخر إذا ما تداخلت مع فعل السائق أسباب أخرى قد تكون سابقة لسلوكه، كضعف حالة المريض أو إصابته بمرض آخر أو أن تكون معاصرة لسلوك السائق، وقد تكون لاحقة كما لو أهمل السائق في إتباع الإرشادات المرورية فماذا يكون الحكم هنا عن الجريمة؟ هل يُسأل السائق ولو تداخل مع خطأه أسباب أخرى أو لا يسأل؟

وللجواب على هذا التساؤل ظهرت نظريات متعددة.
وسوف نتناول أهم ثلاث نظريات وضعت في هذا الصدد، ومن ثم نعرض موقف المشرع العراقي. 

أولا: نظرية السببية الكافية (السبب الملائم):

يذهب أنصار هذه النظرية إلى القول أن سلوك الجاني قد يكون سببا للنتيجة الإجرامية إذا كان صالحا للظروف التي وقع بها لإحداث تلك النتيجة وفقا للمجرى العادي للأمور.

وبتعبير آخر أن هذه النظرية لا تساوي بين مختلف العوامل التي تسهم في إحداث النتيجة بل تفرق بينهما، فتعترف لبعضها دون البعض الآخر في دور المسبب، ولا يعد السلوك الإنساني في منطق هذه النظرية سببا للنتيجة الإجرامية لمجرد إسهامه في حدوثها، وإنما يعد كذلك إذا كان من شأنه إحداث النتيجة عادة ([2]).

وهذا يعني أن هذه النتيجة تفرق بين نوعين من العوامل عوامل مألوفة وعادية تعد سببا ملائما لحصول النتيجة إذا اقترن بها ووفقا للمجرى العادي للأمور، وعوامل شاذة نادرة الوقوع، فبوجود الأولى تقوم مسؤولية الجاني، وفي الثانية لا وجود لمسؤوليته.

التمييز بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة:

والمعيار الذي يستعان به في التمييز بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة هو معيار موضوعي قوامه الرجل العادي، أي الرجل الذي يتكون به السواد الغالب من الناس ويتمتع بإمكانات متوسطة من حيث الذكاء والحيطة والحذر ([3]).

وبالرغم من أن هذه النظرية لاقت قبولا عاما لدى جمهور الفقهاء إلا أنها مع ذلك لم تسلم من النقد، حيث أن البحث فيها إنما هو بحث في صفات السلوك وخصائصه لا في الرابطة التي تصل بينه وبين النتيجة.

وقيل أيضا أن هذه النظرية تقوم على التفرقة بين عوامل النتيجة فتستبعد عن  مجال السببية طائفة من هذه العوامل وتتجاهل حقيقة الدور الذي قامت به في إحداث النتيجة وليس من المقبول عقلا إسقاط هذه العوامل لأنه لولاها ما وقعـت النتيجة([4]).               
كما أن القول بهذه النظرية يؤدي إلى حصر السببية في دائرة ضيقة جدا، الأمر الذي يؤدي إلى إفلات الكثيرين من العقاب([5]).

ثانيا: نظرية السببية المباشرة (السبب الأقوى):

تذهب هذه النظرية إلى أن العوامل التي تشترك في إحداث النتيجة الجرمية تتفاوت فيما بينها في مدى فاعليتها في إحداث النتيجة.
فمن العوامل ما يؤدي دورا أكبر، وقد يقوم بدور محدود والمنطق يقضي إسناد النتيجة إلى أقواها. فهذه النظرية لا تعتد إلا بالسبب الأساس والأقوى في حدوث النتيجة الجرمية ([6])

الإخلال بموازين العدالة:

وقد انتقدت هذه النظرية لعدة أسباب منها أنها تؤدي إلى الإخلال بموازين العدالة حيث أنها تؤدي إلى تضييق نطاق المسؤولية وتسمح بإفلات بعض الجناة من العقاب لمجرد أنهم قاموا بدور أقل من دور غيرهم. فضلا عن أنه من العسير من الناحية العملية التمييز بين الأسباب المختلفة ومن ثم معرفة الفعال والأساسي منها وما يعد في مرتبة الشروط والظروف([7]) فهي تضع ضابطا يكتنفه الغموض والتحكم ويفتقر إلى الضبط والتحديد ([8]).

نفي المسؤولية:

لذلك فأن النتائج التي ترتبت على هذه النظرية غير مقبولة حيث أنها تؤدي إلى نفي المسؤولية في حالات تقتضيها مصلحة المجتمع واعتبارات العدالة.
ونظرا للانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية استبعد القضاء الفرنسي تطبيقها في نطاق الجرائم غير العمدية واتجه إلى نظرية السببية الملائمة وذلك لأن الجرائم العمدية تكون أشد عقوبة من الجرائم غير العمدية.

ثالثا: نظرية تعادل الأسباب:

إن فحوى هذه النظرية يقوم على أساس أن فعل الجاني يكون سببا للنتيجة الإجرامية متى كان هذا السلوك أحد العوامل التي ساهمت في إحداث هذه النتيجة، طالما أن الفكرة الأساسية لهذه النظرية ترى بأن جميع العوامل التي تساهم في إحداث النتيجة تكون متساوية ومتعادلة ومتكافئة. الأمر الذي يؤدي بنا الى القول بأن كل شخص اشترك بسلوكه في إحداث النتيجة يكون مسؤولا عن هذه النتيجة بغض النظر عن العامل الذي أشترك في حدوث النتيجة ([9]).

مسؤولية السائق:

وبناء على ما تقدم يكفي أن يكون فعل السائق الخاطئ أحد هذه العوامل التي تداخلت في حصول النتيجة الجرميه فإذا ما ثبت ذلك كان السائق مسؤولا عن النتيجة الحاصلة عن ذلك الفعل.

فمسؤولية السائق تثار مادام كان خطأه أحد عواملها وتبقى هذه العلاقة قائمة مهما توسط بين فعل السائق والنتيجة من عوامل أخرى سواء كانت هذه العوامل مألوفة عادية أم كانت شاذة نادرة، وسواء كانت راجعة إلى فعل إنسان أو إلى فعل المجني عليه ذاته أو إلى فعل الطبيعة ([10]).

المساواة بين الفاعل والشريك:

وقد وجهت إلى هذه النظرية انتقادات متعددة منها أنها تؤدي إلى اتساع نطاق السببية وهذا يستتبع اتساع نطاق المسؤولية الجزائية ([11]).
كما أن منطق هذه النظرية يؤدي إلى الاصطدام ببعض نصوص القانون ذلك أنها تساوي بين الفاعل والشريك، كما أن الأخذ بها يؤدي إلى نتائج غير منطقية، منها أن فعل الجاني قد لا يحول دون حدوث النتيجة وإنما يعطل حدوثها إلى وقت آخر فالشخص الذي يطلق عيار ناري على شخص آخر يحتضر يكون فعله لا يحول دون الوفاة وإنما يستعجل بحدوث النتيجة وهي الوفاة .

 

معيار العلاقة السببية في قانون العقوبات العراقي:

لقد حددت المادة (29) من قانون العقوبات معيار العلاقة السببية حيث نصت على أن:
1- لا يسأل شخص عن جريمة لم تكن نتيجة لسلوكه الإجرامي. لكنه يسأل عن الجريمة ولو كان قد ساهم مع سلوكه الإجرامي  في إحداثها سبب آخر سابق أو معاصرا ولا حق ولو كان يجهله.
2- أما إذا كان ذلك السبب وحده كافيا لإحداث نتيجة الجريمة، فلا يسأل الفاعل في هذه الحالة إلا عن الفعل الذي ارتكبه.

نظرية تعادل الأسباب:

ومن خلال نص الفقرة الأولى من المادة (29) يبدو واضحا أن المشرع العراقي قد أخذ بنظرية تعادل الأسباب حيث يقرر مسؤولية الجاني عن النتيجة الإجرامية متى ما اشترك فعله في إحداث النتيجة وذلك لأن جميع الأسباب تكون متساوية ومتعادلة سواء كانت سابقة أو لاحقة أو معاصرة فمساهمة عوامل أخرى مع سلوك الجاني في إحداث النتيجة الإجرامية لا ينفي علاقة السببية بينهما ([12]).

انتفاء العلاقة السببية بين فعل المتهم والنتيجة الواقعة:

أما الفقرة (2) من نفس المادة فقد جاءت لتأكد إقرار المشرع العراقي لنظرية تعادل الأسباب بعد أن تم التضييق من نطاقها، فقد ذهب المشرع العراقي إلى إمكانية انتفاء العلاقة السببية بين فعل المتهم والنتيجة الواقعة إذا ساهم معه سبب أجنبي كافٍ بحد ذاته لإحداث النتيجة وكان مستقلا بفعالية سببية خاصة.
وهذا يعني أن شرطين لا بد من توافرهما لإسناد النتيجة إلى السبب الأجنبي وهما:
1- كفاية السبب بذاته لإنتاج النتيج.
2- استقلال السبب الأجنبي عن فعل المتهم وعدم ارتباطه بسلسلته.
والحاصل أن المعنى الذي ينطوي عليه نص الفقرة الثانية من المادة (29) هو أن تداخل العوامل الأجنبية مع فعل المتهم في إحداث النتيجة الضارة ينفي علاقة السببية بين الفعل المذكور وهذه النتيجة ما دامت لها سلسلة سببية مستقلة قائمة بذاتها ولا يدخل في حلقاتها فعل المتهم ([13]).

حكم السببية في قوانين عالمية:

وبمقارنة حكم السببية في قانون العقوبات العراقي مع قانون العقوبات في مصر وفرنسا، نجد أن كلا القانونين خالي من أحكام تتعلق بتعريف علاقة السببية وبيان معيارها لذا فقد ترك الأمر فيهما إلى اجتهاد القضاء والفقه، ففي مصر يذهب أغلب الفقهاء إلى الآخذ بمعيار السببية الملائمة، كما أن المعيار لدى القضاء المصري يمكن صياغته بالعبارة الآتية «تتوافر علاقة السببية بين فعل الجاني والنتيجة الإجرامية إذا ثبت أنه لولا الفعل ما حدثت النتيجة على النحو الذي حدثت به، وثبت بالإضافة إلى ذلك أنه كان في وسع الجاني أن يتوقعها وكان ذلك واجبا عليه» ([14]).

 أما في فرنسا فإن دور الفقه قد اقتصر على مجرد تحليل أحكام القضاء الفرنسي ومحاولة تأصيل بعض الضوابط لها، أما أهم الاتجاهات العامة للقضاء الفرنسي فهي محاولة ربطه بين علاقة السببية والركن المعنوي من خلال الآخذ بمعيار (استطاعة التوقع) فإذا كان الجاني يستطيع توقع النتيجة عند ارتكاب الفعل فالسببية موجودة وإذا لم يستطع فالسببية منتفية. كما أخذ بمعيار السببية غير المباشرة وغير الحالة في الجرائم غير العمدية ([15])


([1]) لتوضيح ذلك ندرج الواقعة التالية التي نظرتها محكمة جنايات نينوى بإضبارة الدعوى 36/ج/1983وأصدرت فيها قرارها المؤرخ في 13/8/1983فقد حدث في 2/9/1982أن صدمت سيارة المتهم (ح) سيارة المجني عليه (س) في طريق شرقاط ـ بيجي وقد أصيب المجني عليه (س) بإصابات ووصفت حالته بأنها لا تخلو من خطورة علما بأنه قد ثبت للمحكمة الخطأ في جانب المتهم (ح)، وبعد وقوع الحادث نقل المصاب حيا بسيارة أخيه المتهم بالدعوى المرقمة 37/ج/983/جنايات نينوى فأصطدمت هذه السيارة بسيارة أخرى كان يقودها المتهم (م) فنقل المصاب (س) وخاله وأخوه اللذين أصيبا نتيجة الإصطدام الثاني حيث نقل إلى سيارة اسعاف دون أن يفحص مرة أخرى للتثبت عما إذا كان قد أصيب هو الآخر بهذه الحادثة كذلك إلى الموصل حيث توفي هناك قبل وصوله المستشفى وقد اعتبرت محكمة جنايات نينوى المتهم الأول (ح)  مسئولا عن وفاة المجني عليه (س) وإدانته وفق الفقرة الأولى من المادة 25 من قانون المرور الملغي إلا أن محكمة التمييز بقرارها المرقم 389/ج1/ت/983/1984والمؤرخ في 30/11/1983 قررت تغيير الوصف القانوني لقرار الإدانة والحكم وتطبيق نص الفقرة الأولى من المادة 24من قانون المرور لعدم ثبوت أن موت المجني عليه (س) كان بسبب إصابته بالحادثة الأولى واحتمال إصابته بالحادثة الثانية أسوة بإصابة رفيقه" أنظر: أحمد مصطفى ناصر، مصدر سابق، ص70.

([2])  د. عوض محمد ، القسم العام ،مصدر سابق ، ص71ومابعدها.
([3]) د. ماهر عبد شويش، الأحكام العامة، مصدر سابق، ص201و202 ود. فخري الحديثي، القسم العام، مصدر سابق ، ص197.
([4]) د. عوض محمد، المرجع السابق، ص74ـ 75و د. محمود نجيب حسني، القسم العام، المرجع السابق، ص 287ـ288
([5]) د. واثبة السعدي، قانون العقوبات، القسم الخاص، دار الحكمة للنشر والتوزيع، بغداد، 1989، ص100.
([6]) د. محمود نجيب حسني، علاقة السببية، مصدر سابق ، ص77.
([7]) د. واثبة السعدي، المصدر السابق، ص101.  
([8]) د. محمد مصطفى القللي، مصدر سابق، ص33.  
([9]) أنظر: د. عوض محمد، قانون العقوبات ،مصدر سابق ، ص68ود. محمود نجيب حسني، علاقة السببية،  مصدر سابق، ص89.
([10]) د. ماهر عبد شويش، الأحكام العامة ،مصدر سابق ،ص198ـ199.  
([11]) د. محمود محمود مصطفى، القسم العام، مصدر سابق ، ص 288.
([12]) د. ماهر عبد شويش، الأحكام العامة، مصدر سابق ،ص204.
([13]) د. حميد السعدي، الأحكام العامة، مصدر سابق، ص171.
([14]) د . محمود نجيب حسني، القسم العام، مصدر سابق، ص301. 
([15]) د. محمود نجيب حسني، علاقة السببية، مصدر سابق، ص255.