تركيا وبناء علاقات إستراتيجية متوازنة فى الشرق الاوسط



أشرنا في التحليل السابق المنشور في صحيفة 'القدس العربي' الغراء بعنوان 'تركيا ومعايير قوة الدولة الإقليمية' بتاريخ 22 نيسان / أبريل 2010، إلى أن تركيا حققت معايير الدولة الإقليمية، من خلال الارتقاء بمنظومة النهوض الاقتصادي والتنموي والصعود العسكري وحسن استغلالها لموقعها الإستراتيجي، ولكن ما هو تأثير النهوض الإقليمي على العلاقات الدولية التركية؟ وكيف وظفت تركيا موقعها الإستراتيجي ونهضتها التنموية وقوتها العسكرية في بناء علاقات إستراتيجية متوازنة في الشرق الأوسط؟
والمقصود بالعلاقات الإستراتيجية المتوازنة هي تلك العلاقات التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار الإستراتيجي مع كافة الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في النظام الدولي الجديد، من خلال بناء تصورات لحل الصراعات وإدارة الأزمات، ووضع سيناريوهات لاحتواء الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط، والعلاقات الإستراتيجية المتوازنة لا تكون على حساب طرف على آخر من الأطراف الدولية أو الإقليمية وإنما تهدف إلى بناء دور إيجابي في التفاعلات الإقليمية والدولية.
وقد أدركت النخبة السياسية التركية ضرورة بناء علاقات إستراتيجية متوازنة في منطقة الشرق الأوسط وهي إحدى دوائرها الإستراتيجية، وترجمت ذلك في بناء نموذج جديد في السياسة الخارجية التركية متعدد الأبعاد والجوانب، يجمع كما أشار د. محمد نور الدين المتخصص في الشؤون التركية بين الحريات والأمن، وتصفير النزاعات أي إنزال النزاعات والمشكلات إلى نقطة الصفر، والاعتماد على القوة الدبلوماسية وأدوات القوة الناعمة لتهيئة البيئة الإقليمية لدور تركي متصاعد.
نجحت تركيا في خلق إستراتيجيات متوازنة في العلاقات الدولية حققت قدر من الاستقرار والأمن والإصلاح والتنمية؟ ولكن كيف استطاع وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو أن يجعل تركيا دولة مركزية التأثير في معظم ملفات الشرق الأوسط وأزماته السياسية؟ وكيف أستطاع تطبيق نظرياته (نظرية التحول الحضاري- نظرية العمق الاستراتيجي- نظرية العثمانية الجديدة) الأكاديمية المتخصصة في ظل قيود الواقع؟ وكيف أقنع بها الولايات المتحدة إلى درجة أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يقوم بزيارة تركيا كأول دولة إسلامية في أول شهور رئاسته للبيت الأبيض؟
ومن مظاهر سعي تركيا إلى بناء الاستراتيجيات المتوازنة في العلاقات الدولية ما يلي: سعي تركيا إلى لعب دور الوسيط في إدارة أزمة الملف النووي الإيراني مع الغرب وهذا ما أعرب عنه وزير الخارجية أوغلو في لقائه مع نظيره الإيراني منوشهر متقي أمس الأول في طهران الذي أكد على أن 'الحل بالنسبة إلى البرنامج النووي الإيراني، هو عبر التفاوض والعملية الدبلوماسية'. وقال في مؤتمر صحافي مشترك مع متقي، إن 'تركيا بوصفها دولة ثالثة، مستعدة لأداء دور وسيط في تبادل اليورانيوم والمسائل النووية الإيرانية الأخرى'.
سعى حزب العدالة والتنمية إلى جعل تركيا دولة مركزية في التأثير في التفاعلات الإقليمية وليست دولة جسر كما ينظر إليها، وفي سبيل تحقيق ذلك قام ببناء شبكة من العلاقات التعاونية مع سورية (إلغاء الفيزا بين البلدين)، ومع إيران (توقيع أكثر من اتفاقية تعاون في مجالات الطاقة والتجارة)، ومع العراق (فتح قنصليات في البصرة وأربيل والانفتاح على حكومة كردستان في شمال العراق)، ومع أرمينيا (توقيع بروتوكولين يمهدان لفتح الحدود والتطبيع).
اتخاذ حزب العدالة والتنمية خطوات جادة نحو تحقيق معايير كوبنهاغن للانضمام للاتحاد الأوروبي من خلال ترسيخ قواعد الحوكمة الديمقراطية وقيم ومبادئ حقوق الإنسان، وبناء اقتصاد سوق فاعل على المستوى الإقليمي والعالمي.
تتوسط تركيا في العديد من المشكلات الموجودة في محيطها، من خلال تنشيط دور أنقره في المؤسسات الإقليمية والدولية ومشاركتها الفاعلة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والانفتاح الاقتصادي والثقافي على كافة دول العالم حتى على تلك التي كانت بينها وبين أنقره مشكلات تاريخية مزمنة مثل أرمينيا.
تسعى تركيا إلى إجراء تعديلات دستورية لتحقيق السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية التى تتمتع بسلطات كبيرة فى الدستور التركي من أجل حماية العلمانية والدفاع عن المبادئ الكمالية التى أسسها مصطفى كمال أتاتورك منذ عام 1923، إذ إن تقليص دور المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية التركية هو مطلب أوروبي لانضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي.
تتجه تركيا إلى صياغة وتنفيذ سياسة خارجية أكثر تحررية واستقلالية مع الإبقاء على تحالف متوازن مع الولايات المتحدة قائم على احترام المصالح المتبادلة، بعيدًا عن علاقات الهيمنة وفرض مصلحة طرف دون الآخر، إلى درجة أن تركيا استطاعت أن تزيد من الحاجة الأمريكية لها ولدورها كركيزة للتوازن في داخل كل نظام إقليمي فرعي توجد فيه.
لكن يبقى السؤال: لماذا تسعى تركيا إلى بناء إستراتيجيات متوازنة فى العلاقات الدولية؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال فى الهدف الذي حدده وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو وهو أنه بحلول عام 2023 أي بعد مرور مئة عام على استقلال تركيا -استقلت عام 1923 - يجب أن تكون تركيا دولة كاملة العضوية في الاتحاد الأوروبي، تحيا في سلام تام مع جيرانها، يغذيه شبكة من الاتفاقيات الاقتصادية والرؤية الأمنية الموحدة، ولاعب مؤثر يدفع سياسات المنطقة إلى المصالح الوطنية التركية، وكذلك لاعب مؤثر في الشؤون العالمية، ومن بين أقوى 10 اقتصاديات في العالم'.
لقد حددت النخبة السياسية الهدف وأجادت اختيار وسائل وسبل تنفيذه، حتى تكون كما قال عنها وزير خارجيتها أوغلو ' تركيا سوف تستشار، ويُحترم رأيها في كل القضايا العالمية، من المناخ والاحتباس الحراري إلى قضايا الشرق الأوسط 'لذا تبنت حكومة حزب العدالة والتنمية سياسة خارجية طموحة، جنبا إلى جنب مع برنامج داخلي للإصلاح السياسي يهدف إلى تأمين محاولة تركيا لتصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت ذاته تنمية العلاقات مع القاهرة ودمشق وبغداد والرياض وطهران. إن التغير الإستراتيجي في السياسة الخارجية التركية يرجع إلى سلسلة من التطورات الإستراتيجية المهمة التي دفعت الأتراك إلى إعادة صياغة سياسات بلادهم الخارجية بما يتماشى وتلك التغيرات، والتي كان من أبرزها: وصول حكومة حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما تمخض عنه من تصعيد للتوتر في العلاقات التركية الأمريكية، وكذا المراوغة الأوروبية في قبول عضوية تركيا بالاتحاد الأوروبي، علاوة على تنامي النفوذ الإيراني بشكل ملحوظ في العراق ولبنان وسورية والأراضي الفلسطينية، مما شجع تركيا على مضاعفة اهتمامها بمحيطها العربي والإسلامي والانغماس في قضايا وملفات طالما كانت بعيدة عنها.
في خلاصة التحليل، يمكن القول أن تركيا في تقديري أصبحت قوة إقليمية عظمى (Regional Super Power)، تسعى إلى حجز مكان متميز في النظام الدولي الجديد من خلال تفاعلاتها الإقليمية النشطة وفي ظل تغير الخريطة الجيوستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط.
أحمد جلال محمود
' باحث في العلاقات الدولية قسم العلوم السياسية جامعة حلوان


ليست هناك تعليقات