الانتحال في الشعر الجاهلي.. نسبة الشعر لغير قائله



الانتحال في الشعر الجاهلي:

لا ريب أنَّ الشعر الجاهلي يثير معضلة تتجلى واضحة في تفاوت أساليب المقطوعات الشعرية والقصائد الجاهلية، وتظهر أيضاً في ترتيب الأبيات الشعرية واختلاف الروايات في مفرداتها وتراكيبها وصياغاتها.
وهذا من شأنه أن يثير الشك حول صحة الشعر، من حيث نسبته إلى صاحبه، أو إلى زمانه، أو إلى مكانه.

النحل والانتحال والوضع:

ولم يكن الأدب العربي بدعة في هذا السياق، إنما هي ظاهرة عانت منها آداب الأمم الأخرى في مراحلها التي سبقت التدوين، ولذلك فإنَّ الأدب الإغريقي، وبخاصة في ملحمتيه الإلياذة والأوديسا قد تسـرب الشك إليه في تـوثيق النصوص ونسبتها إلى مؤلفيها.

وقد شاع استخدام مصطلح الانتحال ليدل على قضية الشك في الشعر الجاهلي ويؤثر بعضهم استخدام مصطلح النحل ويحدده بأنه وضع قصيدة ما أو بيت أو أبيات وإسناد ذلك لغير قائله، ويذهب آخر إلى أنَّ معنى انتحله وتنحله ادعاه لنفسه وهو لغيره...

ويقال نحل الشاعر قصيدة، إذا نسبت إليه، وهي لغيره، وقد ميز باحث آخر بين ثلاثة مصطلحات، وهي: النحل، والانتحال، والوضع.
فالوضع لديه هو أن ينظم الرجل الشعر ثم ينسبه إلى غيره لأسباب ودواع، والانتحال هو ادعـاء شـعر الغير... والنحل أن ينسب الرجل شـعر شـاعر إلى شاعر آخر.

نسبة الشعر لغير قائله:

ويمكننا إيجاز مفهوم الانتحال بأنه نسبة الشعر لغير قائله، سواء أكان ذلك بنسبة شعـر رجل إلى آخـر، أم أن يدعي الرجل شعر غيره لنفسه، أم أن ينظم شعراً وينسبه لشخص شاعر أو غير شاعر، سواء أكان له وجود تاريخي أم ليس له وجود تاريخي.

وقد التفت علماء العربية إلى هذه الظاهرة وأولوها عناية وبحثا، إذ يؤكد ابن سلام الجمحي ذلك حين يقول : وفي الشعر مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج.

وإذا كان ابن سلام قد أجمل الحديث - هنا - عن الظاهرة بأسرها فإنَّ من علماء العربية من تحدث عن مفرداتها وجزئياتها، إذ يرد عن الأصمعي أنه قال: إنَّ كثيراً من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه.

ولم يكن الأمر مقتصراً على علماء العربية القدامى فلقد أسهم المستشرقون بذلك وأدلى بعضهم بآراء خطيرة، وخالفهم أو تابعهم بعض الباحثين العرب المعاصرين .

وسنتوقف في الصفحات التالية عند ابن سلام الجمحي بوصفه أبرز من تناول ظاهرة الانتحال عند القدامى، ثم نتناول الحديث عند المستشرقين، ونتوقف عند صموئيل مرجليوث بخاصة، لتبنيه تصورات خطيرة في قضية الانتحال، ونتوقف أخيراً عند طه حسين الذي أثار ضجة كبيرة في كتابيه الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي، في تناوله لفضية الانتحال في الشعر الجاهلي.

في الشعر مصنوع مفتعل:

يؤكد ابن سلام الجمحي وفرة الشعر الجاهلي ولكن ما وصل إلينا منه قليل، إذ يروي عن أبي عمرو بن العلاء قوله: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير.

ويرجع بعض ذلك ـ فيما يرى ابن سلام ـ إلى انشغال العرب بعد مجيء الإسلام بالجهاد، وقد هلك كثير من الناس مما أدى إلى ضياع كثير من الشعر يقول ابن سلام: فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغـزو فارس والـروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم كثير.

إنَّ الشعر الذي وصلنا من الجاهلية قليل وقد ضاع أكثره، ويؤكد ابن سلام أنَّ في هذا القليل مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه، مما يدفع إلى ضرورة تنقيته وعزل صحيحه عن زائفه، فهو يقول: وفي الشعر مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته ولا أدب يستفاد، ولامعنى يستخرج، ولا مثل يضرب ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء.

العامل القبلي لانتحال الشعر:

وقد اختلف العلماء في الشعر صحيحه وزائفه، ويرى ابن سلام أن ما اتفق عليه العلماء لا جدال حوله ولا نقاش فيه، أو على حد تعبيره ليس لأحد أن يخرج منه.

ويعي ابن سلام الجمحي أنَّ هناك أسباباً دفعت إلى نحل الشعر ووضعه، ويمثل العامل القبلي واحداً من الأسباب التي أدت إلى تزيد القبائل في نسبة الشعر إلى شعرائها في الجاهلية والإسلام، لأن العرب حين راجعت رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والشعراء، فقالوا على ألسنة شعرائهم.

الوامل السياسية والدينية لانتحال الشعر:

ويختلط بالعامل القبلي أحياناً بعد سياسي، فقريش قد وضعت على حسان بن ثابت قصائد عديدة لم يقلها، لدرجة يصف ذلك ابن سلام بأنه قد حمل عليه ما لم يحمل على أحد، لما تعاضهت واستتب، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة لا تنقى.

وإذا كان العامل القبلي ـ هنا ـ يختلط ببعد سياسي فانه يختلط أحياناً ببعد ديني، ففي حديث ابن سلام عن أبي طالب يصفه بأنه كان شاعراً جيد الكلام، أبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه:
وَأَبيَضَ يُستَسقى الغَمَامُ بِوَجهِهِ
رَبيعُ اليَتَامى عِصمَةٌ للأَرامِل

وقد زيد فيها وطولت... وقد علمت أنْ قد زاد الناس بها، ولا أدري أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت: صحيحة جيدة فقال: أتدري أين منتهاها، قلت: لا.

وقد أسهمت الرواية في وضع الشعر الجاهلي ونحله، فلقد عبث الرواة كثيرا في الشعر الجاهلي، ونسبوا إلى الشعراء ما ليس لهم، ويمكن تصنيف الرواة إلى فئتين: