الاتفاقيات الدولية وحدود مصر الشرقية في بداية القرن العشرين.. تاريخ الصراع بين بريطانيا ومصر والدولة العثمانية وألمانيا وأهمية المحافظة على قناة السويس وخليج العقبة عبر سيناء



لعب موضوع حدود مصر الشرقية دوراً في تاريخ الصراع بين بريطانيا ومصر من جانب والدولة العثمانية وألمانيا من جانب آخر حتى اتصل الأمر بأهمية المحافظة على قناة السويس عبر سيناء كلها وبأهمية المحافظة على خليج العقبة كطريق تاريخي للمرور والحج إلى الأماكن الإسلامية المقدسة.

وقد ظهر ذلك جلياً عندما أصدر الباب العالي فرمان تولية الخديوي عباس حلمي الثاني (1892-1914م) في 7 يناير 1892م الذي جاء مخالفاً لما سبقه من فرمانات التولية ومخالفاً لأحكام معاهدة لندن عام 1840 م والذي أراد الباب العالي فيه إدخال تعديلات على الحدود الشرقية لمصر حتى إذا ما مرت بدون اعتراض اعتبر ذلك سابقة تسجل حقوقاً للباب العالي في شبه جزيرة سيناء.

 وترتب على ذلك بداية أزمة كبيرة بين مصر وتركيا ظهرت فيها بريطانيا بوضوح وتدخلت بشكل سافر وصريح.

ولتحقيق ذلك أوعز مختار باشا لجريدة "الأهرام " بأن تنشر خبر مؤداه أن الأتراك سوف يرسلون قوة إلى نخل لحماية مداخل العقبة  في إطار تحقيق هدفها المنشود كما صدرت الأوامر من الآستانة لمبعوثين اختارهما الباب العالي لتحديد الحدود كخطوة من جانبها لتفعيل فرمان التولية وأمرتهما بالسفر إلى العقبة عن طريق بيروت وقد أثار هذا التصرف الحكومة البريطانية إلى تقديم مذكرة احتجاج من الحكومة المصرية للسلطان العثماني مفادها ضرورة مغادرة المبعوثين البلاد وكان رد الحكومة العثمانية أن عززت قواتها في العقبة فأرسلت إليها لواء وضاعفت فيها عدد المشاة.

وعلى أثر ذلك  دارت اتصالات بين القاهرة والآستانة حيث اعتبرت الفرمان رسماً لحدود مصر الشرقية بخط يمتد من السويس إلى العريش في الوقت الذي تدار فيه شبه جزيرة سيناء بواسطة الخديوية المصرية طول الفترة السابقة على صدور الفرمان.

وبناءً عليه أبلغ السير إدوارد جراى الباب العالي برغبة الحكومة البريطانية إرسال سفينة حربية إلى العقبة الأمر الذي دفع تركيا إلى اتخاذ قرارها بشأن تحريك ممثليها في القاهرة والعقبة  وتفجرت الأزمة التي استمرت ثلاثة شهور (يناير - أبريل) انتهت بتسوية تقوم على أساس جلاء  مصر عن العقبة والمراكز الواقعة شرقها (ضبا - المويلح - الوجه).

وفي 14 أبريل عام 1892 م صدرت وثائق تسوية الأزمة وكانت على شكل برقية موجهة من جواد باشا الصدر العظم للحكومة العثمانية تعطى مصر الحق في" إدارة شبه جزيرة سيناء وأن يترك القديم على حاله بنفس الطريقة التي كانت مدارة بها في عهد جدكم إسماعيل باشا وأبيكم محمد توفيق باشا".

ولذا قبلت مصر الفرمان واعتبرت البرقية مكملة له ومتممة له وانتهت الأزمة باعتراف صريح بأن شبه جزيرة سيناء جزء من الخديوية المصرية لا يجوز إجراء أي تعديل فيها بدون موافقة الدول الموقعة على معاهدة لندن 1840 م الضامنة البقاء للأوضاع التي تقررت بالنسبة للحدود بين مصر وتركيا.

وفى عام 1898 م قام الخديوي عباس باشا الثاني بزيارة للعريش ووصل منها إلى الحدود حتى رفح وسجل تاريخ تلك الزيارة على عمودي الحدود الفاصلة بين فلسطين ومصر ،كما نقش على عمود الحدود تلك الزيارة كمدلول هام وتاريخي في إبراز وتحديد الحدود المصرية الشرقية.

وقد تلاحقت التطورات في الفترة من 1892 -1906 م حتى تفجرت مسألة الحدود مرة أخرى وقد يرجع ذلك أنه في عام 1904م عقد اتفاق ودي بين بريطانيا وفرنسا أدي إلي انزعاج الأوساط السياسية في الحكومة العثمانية ولذلك أرادت إحراج الجانب البريطاني بإعادة طرح المسألة المصرية على بساط البحث الدولي.

والأمر الثاني هو رغبة السلطان العثماني في مد خط حديدي في المنطقة العثمانية المجاورة لخط الحدود المصرية يعرف بخط "سكة حديد الحجاز"يمتد من معان إلى العقبة الواقعة على خط الحدود المصري ومنه تمتد خطوط فرعية إلى السويس وبورسعيد وكانت السلطات البريطانية ترى أن السماح ببناء خط حديدي معناه أن الحكومة العثمانية تعمل على استغلال كل الظروف المهيأة لإثارة الرأي العام الداخل والخارجي ضد بريطانيا ويتمثل ذلك في:

على الصعيد الداخلي كانت الجبهة المصرية مهيأة لتلك الخطوة وذلك بنمو الحزب الوطني وميول زعيمه مصطفى كامل الموالية للسلطان والجامعة الإسلامية.

أما على الصعيد الخارجي كانت الظروف الدولية مهيأة لإثارة المسالة المصرية خاصة بعد ظهور ألمانيا كقوة استعمارية منافسة للتحالف الانجليزي الفرنسي و تدخلها بشكل واضح فى مسألة الحدود الشرقية لمصر من خلال رغبتها فى إقامة خط سكة حديد يربط الولايات العثمانية ببعضها إلى جانب رغبتها فى التواجد بالمنطقة لمواجهة التحالف الإنجليزي الفرنسى.

لذلك قامت قوة عثمانية قدرت ما بين 200 -300 جندي في 21 يناير 1906 م بالتقدم من العقبة إلى طابا واحتلال (نقب العقبة – القطار) ومنع قوة مصرية بقيادة سعد بك رفعت التي وصلت إلى طابا على سفينة خفر السواحل المصرية "نور البحر" من النزول إلى البر ورفض الأتراك الانسحاب من المناطق التي سيطروا عليها مما دفع بريطانيا إلى توجيه سفينة حربية "ديانا" للخليج لاحتواء الوجود التركي في المراكز التي احتلوها.

وفى الوقت نفسه صممت مصر وبريطانيا على تعليم خط الحدود بين مصر والأراضي الخاضعة للدولة العثمانية الواقعة شرقها وعدم الاكتفاء بما جرى عام 1892 م من تعيين خط الحدود.

وبناءً عليه أرسل الخديوي بناءً على نصيحة اللورد كرومر برقية طويلة إلى الصدر الأعظم في 14 ابريل 1906 م يبلغه فيها" أن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى اتفاق هي اتخاذ برقية 8 ابريل 1892م كأساس للمفاوضات، وأنه إذا ما كانت  هناك بعض البقاع مشكوك في وضعها فيمكن أن يمسح المهندسون خط الحدود بين رفح والعقبة، وبدلاً من أن يسير الخط عند قلعة العقبة يمكن أن يسير إلى نقطة على ساحل الخليج تبعد ما لايقل عن ثلاثة أميال غرب القلعة".

ولم تستجب الحكومة العثمانية لمقترحات الخديوي ،كما قدمت تهديداً لخديوي مصر بأنه يجب إطاعة أوامر الحكومة العثمانية بحكم تبعيته لها.

وفى الوقت نفسه قامت الحكومة العثمانية بإزالة الأعمدة الرخامية المقامة في منطقة رفح "بشأن إزالة عمودي الحدود من مكانهما سترتهما بالخيام مدة ثلاثة أيام ونشرتهما في خلالها خفية عن الناس ومنعت كل أحد من الدنو إلى ذلك المكان أو المرور في تلك المدة لئلا يعلم ما تفعل".

 إلى جانب تزويد الحامية التركية في رفح بقوة قدرت 800 جندى وما يلزم لهم من العدد والإمدادات، "ورد خبر أن طابوراً (أورطة) من العساكر العثمانية جاءت إلى رفح وانضمت إلى العساكر التركية كما أن الحكومة العثمانية جعلت خان يونس المركز العمومي لمن يحضر من جنودها إلى الحدود".

 وكان لابد من القيام بعمل حاسم ضد الأتراك ،ولذا اتخذت انجلترا كافة الاحتياطات من خلال تأمين الموقف المحلى والدولي على حد سواء.
كما عملت على تعزيز قواتها في القاهرة، "وأصدرت أوامرها إلى البارجة الانكليزية منيرفا الراسية في مياه بورسعيد أول أمس صباحاً بأن تتأهب للسفر فصدعت بالأمر وأبحرت الظهر تمخر عباب البحر المتوسط قاصدة العريش لترسو في مكان على شواطئها مناوح للجنود العثمانية المعسكرة هناك فحاكت بذلك الباخرة ديانا التي أوقفت في جهة العقبة".

 كما قامت بتقديم احتجاج شديد اللهجة للسلطات التركية ،وبعد إتمام كافة الترتيبات السابقة الذكر تقدم السير أوكونر(O'Connor) في 3 مايو 1906 م إلى وزير خارجية الدولة العثمانية بمذكرة طويلة ذكره فيها بفرمان تولية الخديوي عباس وبرقية 8 أبريل 1892م أنهاها بإنذار جاء فيه "وعلى الحكومة العثمانية أن تعلم أن الحكومة البريطانية لن تظل ساكتة على انتهاك حقوق سمو الخديوي والعدوان على أراضيه... فقد صدرت لي التعليمات لإبلاغكم" أنه على الحكومة العثمانية أن توافق على تعيين خط الحدود بين رفح إلى رأس خليج العقبة على أساس برقية 8 أبريل وإن أي تأخير سوف ينتج عنه زيادة صعوبة الموقف وأضيف إلى ذلك أنه إذا لم يتحقق هذا خلال عشرة أيام فستكون النتائج وخيمة للغاية  وكانت بريطانيا في ذلك الأمر  قد "أصدرت تعليماتها إلى اللورد تشارلس برسطور أميرال أسطول البحر المتوسط في عمل كل مايراه واجباً لحماية المصالح الانكليزية وإكراه الباب العالي على قبول مطالب بريطانيا العظمى متجنباً سفك الدماء".

وكان أول رد فعل للإنذار البريطاني أن أرسل السلطان "نجيب باشا "كمبعوث خاص له يوم5مايو 1906م إلى السفير البريطاني في استانبول يؤكد له احترام برقية 8 أبريل، كما عاد في مساء اليوم نفسه بمشروع معاهدة لحل الأزمة يتمثل في أن تعترف بريطانيا بسيادة السلطان على مصر، وأن يعترف السلطان بالمعاهدات والفرمانات الخاصة بمصر، ورفضت الحكومة البريطانية المقترحات العثمانية، وقامت بعملية ضغط مستمر عليها حتى وصلت في 14 مايو 1906م مذكرة تركية من الباب العالي رداً على الإنذار البريطاني بإجابة كل المطالب التي قدمت بهذا الشأن.

كما وافق الباب العالي في مذكرته على ما جاء في برقية جواد باشا في 8 أبريل 1892م للخديوي ،وأنه تقرر الجلاء عن طابا، كما وافق على أن خط الحدود سيمتد من رفح إلى رأس خليج العقبة على بعد ثلاثة أميال غرب قلعة العقبة. وما لبثت القوات التركية أن جلت عن كل المراكز التي ظلت تحتلها منذ بداية الأزمة ، كما أعيدت أعمدة الحدود الرخامية التي تم إزالتها.

وبناءً عليه أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني "إرادة سنية" بتشكيل لجنة لتعليم الحدود وتخويلها السلطة المطلقة على إجراء بعض تغييرات حقيقية في الخط المستقيم لكي يتيسر لكل من الدولة العلية ومصر إدارة نقاط الحدود بسهولة والذي انتهى بعد خمسة شهور من المفاوضات تعليم خط حدود مصر الشرقي في أول أكتوبر 1906 م ووضع علامات حجرية على كل النقاط والتي كانت بمثابة على شكل هرم ناقص قاعدته 1 ×1 م وبينت أول علامة في رأس طابا يوم السبت الموافق 31 ديسمبر 1906م، وأعطيت آخر علامة في تل الخربة على ساحل البحر المتوسط برفح في 9 فبراير 1907م.

وتلاحظ مما سبق أن أزمتي الحدود 1892 ،1906م على حدود مصر الشرقية رصد للوجود التاريخي المصرى في بعض المناطق المتنازع عليها مثل رأس النقب إلى جانب العامل الجغرافي لما يمثله تخطيط الحدود من صراع على مصادر المياه إلى جانب الاعتبارات الديموجرافية والتي اتصلت أساساً بتوزيع القبائل على طول خط الحدود الذي تم الاتفاق عليه سياسياً حيث تقع قبائل مصرية شرق الخط بينما تقع قبائل كانت تحت الإدارة التركية مما يتطلب مناقشات طويلة لتسوية تلك القضية خاصة وأن تركيا في ادعاءاتها تحديد الحدود تبعية قبائل تلك المناطق للإدارة التركية والتي بينا إقحام العنصر البشرى في تلك التطورات التي طرأت على المنطقة في صياغة الحدود المصرية الشرقية في صورة صراعات ونزاعات بين القبائل وبعضها البعض مما أدى إلى إحداث الأزمات التي شهدتها المنطقة في تلك الفترة قيد الدراسة.