الصورة الفنية في الشعر الجاهلي.. الشكل الفنيّ الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خالص. التعبير بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذّهنيّ والحالة النفسية



الصورة الفنية في الشعر الجاهلي:

عُني النقّاد المحدثون بالصورة الفنية وأثرها في الإبداع الفني، وأفردوا لها الكتب والبحوث، فدرسوا طرق تشكيلها، وأنواعَها، ووظائفها.
والصورة وسيلة راقية يستعين بها الشّاعر في إظهار معانيه، وتجسيد عواطفه، وتقريب أفكاره، فبفضلها تشخّص المعاني المجرّدة، وتصبّ في صورة مرئيّة محسوسة، وبذلك تكتسب قوة ونصوعاً، وهي "الشكل الفنيّ الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشّاعر في سياق بيانيّ خالص ليعبّر عن جانب من جوانب التجربة الشّعرية الكافية في القصيدة مستخدماً طاقات اللغة وإمكاناتها في الدّلالة، والتركيب، والايقاع، والمجاز، والترادف، والتضاد، والمقابلة، والتجانس، وغيرها من وسائل التعبير الفنيّ".

التعبير عن المعنى الذهني والحالة النفسية:

والتصوير هو "التعبير بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذّهنيّ والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النّموذج الإنسانيّ، والطبيعة البشرية، ثمّ يرتقي بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشّاخصة أو الحركة المتجددة.
فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطّبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأمّا الحوادث والمشاهد... فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها المواد فقد استوتْ لها كلّ عناصر التخييل".

دلالات نفسية:

والصورة الشّعرية ذات دلالة نفسية، وهي "كلّ تعبير عن تجربة حسية تنقل خلال السمع أو البصر، أو غيرهما من الحواسّ إلى الذهن، فتنطبع فيه، أي إنّ هذه الحواس كلها، أو بعضها تدرك عناصر التجربة الخارجية، فينقلها الذهن إلى الشعور، ثم يعيد إحياءها، أو استرجاعها بعد غياب المنبّه الحسّي بطريقة من شأنها أن تثير الإحساس الأصيل في صدق وحيوية".
فالذهن محتاج في كثير من اعتمالاته إلى الحواسّ لترجمة تلك الاعتمالات، فتكون الحواسّ أهم وسائل الذهن في الاستقبال والبثّ.

أهم أركان الشعر:

ويعد التصوير أهم ركن في الشّعر، بل لعله الشّعر كله، ففيه الجمال والبهاء، ولا بدّ أن يثير فينا إحساساتٍ جماليةً، وانفعالات وجدانية تعبر عن التجربة بصورة حيّة ونابضة بالأحاسيس، قادرة على نقل الحالة النفسية التي اعترت الشّاعر، وسيطرت عليه لحظة إبداعه الفني، بحيث يوحي للقارئ "أنه يناجي نفسه، لا أنه يقرأ قطعة لشاعر".
فهل استوتْ للشاعر الجاهليّ كلّ عناصر التخييل؟
وهل استطاع أن يبعث الحركة في الجوامد ويمنحها الحياة الشّاخصة؟
وهل استطاع أن يجسّم لنا مشاهد الطبيعة؟
وهل استطاع أن ينقل ما يعتمل بنفسه وخاطره نقلاً دقيقاً إلى غيره بحيث يتأكد أن غيره أصبح على دراية بتجاربه، وكأنه يرى ويسمع ويحس كما رأى الشّاعر وسمع وأحس؟

إبصار الشيء الموصوف:

لقد أجاب أستاذنا محمد النويهي عن كثير من الأسئلة التي أثرناها وانتهى إلى "أنهم - الجاهليين - يحاولون في شعرهم أن يجعلونا نبصر الشيء الموصوف وذلك بواسطة هذه الأدوات - الأدوات البيانية - فامرؤ القيس يبدأ وصفه للعاصفة الممطرة في معلقته بقوله:
أصاح ترى برقاً أريك وميضه + كلمع اليدين في حبيّ مكلّل
يستغلّ التشبيه، ويصرّح بغرضه الفنيّ بجلاء لا جلاء بعده... فهو يخاطب كلّ منْ يسمع شعره قائلاً: أنت (ترى) هذا البرق، الذي سأتحدث عنه، وأصفه لك، ثم لا يكتفي بهذا الفعل (ترى) بل يضيف إليك (أريك) زيادة في تأكيد غرضه، كأنّه يريد أن يقول: أنت تراه رؤية سطحيّة، أو عادية لكنّي سأريك إياه رؤية أعمق وأدق، ثم يمضي في إعطاء تشبيهات حسيّة متوالية، يحاول بها أن يجعل سامعه (يرى) ما يصف هذه الرّؤيةَ العميقةَ الدقيقة الوافية.

الصورة المزدوجة:

وقال علقمة في وصف إبريق الخمر:
كأن إبريقهم ظبيٌ على شَرَفٍ + مُفَدَّمٌ بسَبا الكَتّانِ مَفْدومُ
أبيض أبرزهُ للضحّ راقبُهُ + مقلّدٌ قُضُبَ الرّيحانِ مفْغومُ
إنّها صورة مزدوجة، فتشبيه الشّاعر لم يترك كلاّ من المنظرين قائماً بمفرده، بل هو قد طبع أحدهما على الآخر، حتى ذاب أحدهما في الآخر، وتكونت منهما صورة موحّدة عجيبة، لا تدري أيّهما الظبي، وأيهما الإبريق...
فالذي فعله هذا التشبيه هو أنه خلع على الإبريق صفات الرّشاقة والخفة والظرف التي نقرنها بالظبي، لكن هذه الصفات لم تبقَ مجرد أوصافٍ حسيّة لأحجام ونسب ومواقف مادية، بل لفتتك فجأة إلى ما في جسم الإبريق جيّد الصناعة من صفات حسيّة يراها الفنان الأصيل ويقتنع بوجودها اقتناع الآخرين بالصفات المادية التي تلمس وتحسّ.

لوحةَ فنيةً للظّليم:

ويرسم علقمة لوحةَ فنيةً للظّليم من خلال تشبيه ناقته به، إذ قدّم لنا تلك اللوحةَ من خلال مشاهد وصورٍ متتابعة يكمل بعضها بعضاً، مبرزاً اللون والحركة.

المشهد الأول: مشهد حياتي وادع:

الظليم في دعة من العيش، في مرعى ناءٍ خصيب، يرتعي شجر الحنظل، ويقطف نبات القنّب، آمنا غير فزع... الظليم مستمتع بمرعاه، والشاعر مستمتع بمنظر ذلك الظليم.
كأنها خاضبٌ زعْرٌ قوادمُهُ -- أجنى له باللّوى شَرْيٌ وتنّومُ
يظل في الحنظل الخُطبانِ ينقُفُه -- وما استطفّ من التنّومِ مخذومُ

المشهد الثاني: مشهد نفسي:

هاجت في نفسه ذكرى بيضاته، فالرّذاذ والريّح يوحيان بقرب وقوع المطر، والمحافظة على بيضه من الفساد تستدعي احتضانها بجسده، فيهبّ مذعوراً:
حتى تذكرّ بيضاتٍ وهيّجه -- يوْمُ رذاذٍ عليه الريحُ مغيومُ

المشهد الثالث: مشهد دفاعي:

يسرع عائداً إلى أدحيّه بخطى متلاحقة، وجري سريع، ثم يشتد في سرعته، التي يكاد لفرطها يختلّ مقلته بأظافر رجليه:
فلا تزيّده في مَشيه نَفِقٌ + ولا الزّفيفُ دَوَيْنَ الشَدّ مسؤومُ
يكاد منسمُهُ يختلّ مقلتَهُ + كأنّه حاذرٌ للنّخس مشهوم

المشهد الرابع: مشهد عاطفي:

وصول الظليم إلى أدحيّه "منزله" قُبَيْل غروب الشمس، ويصّور الشّاعر بالصوت واللون والحركة ذلك المشهد:
حتى تلافى وقرْنُ الشمس مرتفعٌ + أدحيَّ عِرْسيْن فيه البَيضُ مركومُ
فطاف طوفين بالأدحيّ يقفُرُهُ + كأنه حاذرٌ للنّخس مشهومُ
يأوي إلى حسكلٍ زعْرٍ حواصلُهُ + كأنهنّ إذا برّكْنَ جُرْثومُ
يوحي إليها بإنقاضٍ ونقنقةٍ + كما تراطنُ في أفدانها الرّومُ
صَعلٌ كأنّ جناحيْه وجؤجوه + بيتٌ أطافتْ به خرقاءُ مهجومُ
تحفّه هقْلَةٌ سطعاءٌ خاضعةٌ + تجيبه بزمارٍ فيه ترنيمُ

دقة الملاحظة إلى بلاغة القول:
هذه المشاهد الأربعة، كلّ مشهد فيها يمثل حالة، تشترك كلُّها في رسم لوحة شاخصة واحدة، فحالة الاطمئنان تتبعها حالة فزع، ثمّ حالة ردّ فعل، انتهاء بتلك الحالة الوجدانية التي تفيض بالإحساس والشعور، فهو يصور الحالات الانفعالية الظاهرةَ والباطنةَ أدقّ تصوير، باختصار وسرعة دون أن يُخلّ ذلك بالتّصوير، أو طريقة العَرْض... إنه حقاً مشهد تمثيلي رائع متكامل.
لقد أبدع الشّاعر الجاهليّ لوحاتٍ شعريةً لا تدعُ للذّوق الجماليّ سبيلاً إلى إغفالها، أو الإضراب عنها، أوْدعها انجذابه إلى كلّ رائع وجميل، وضمّنها إعجابه بكل سامٍ وجليل.
إنها لوحات فنية تجمع دقة الملاحظة إلى بلاغة القول، وشفافية الوجدان إلى نصاعة البيان.

خصائص الأسلوب التصويري الجاهليّ:

إنّ الشّاعر الجاهليّ قد صور كل ما وقع تحت حسه، أو جال في نفسه، عندما أراد أن يعبّر عنه، ويقربه إلى أذهان الآخرين، ويمتعهم ويؤثر فيهم بما جال في خواطره. وامتاز الأسلوب التصويري الجاهليّ بخصائص:

- غلبة الأسلوب التصويري:

إن قارئ الشّعر الجاهليّ في نماذجه المختلفة، يلاحظ غلبة الأسلوب التصويري على موضوعات بعينها، تتردد في قصائده على اختلاف أغراضها، هي: الوقوف على الأطلال، ووصف جَمال المرأة التي يتغزل فيها الشّاعر، ووصف الحيوان، والطير في قصص الصيد المعروفة، ووصف السّحاب والمطر وما يحدثه من خصب ويجدده من حياة في الأرض الموات - إلى غير ذلك من الموضوعات النمطية التي لا تخلو منها قصيدة في الشّعر القديم.

- الشعائر المقدسة:

إنّ صور هذا الشّعر على كثرتها وتنوعها، تتردّد فيها - أو قُلْ تتكرر - عناصر لغوية وموضوعية وروحية واحدة، وكأنها كانت لدى شعراء الجاهلية جميعاً بمثابة "الشعائر المقدسة" التي وُكل إليهم تلاوتها.

- تداخل الموضوعات:

إن أطراف هذه الصور وعناصرها المتقابلة، تتداخل في الموضوعات المختلفة، فيما بينها تداخلاً شديداً؛ فقد درج الشعراء الجاهليون على أن ينقلوا صفات الأشياء بعضها إلى بعض مُحْدثين فيها ما يعرف في النقد الحديث بـِ "تراسل الحواس"، وذلك بما أحدثوه فيها من تحوير وتحريف، وما خلقوه بين أطرافها المتنافرة من علاقات: فهم يجمعون بين المرأة والبدر والبقرة الوحشيّة والغزالة والمهاة والظبية والرئم والنخلة... كما يجمعون بين الأطلال والوشم والسّحاب والكتابة والصّحائف؛ وبين الثّور والسّيف، والثّوب المخطط، وبين الخيل والأسود والسّهام وقرون البقر والرّماح وشوك النخل؛ إلى غير ذلك من الصور التي تتداخل وتتبادل فيها الكائنات المختلفة من حيوان ونبات صفاتها وخصائصها المتباينة.