شبهة العقد المدني للزواج ني:
أصل هذه الشبهة لا يرجع إلى كون الزواج في الإسلام لا يتم إلا في المسجد وتحت إشراف الإمام أو رجل الدين، بل يصح إذا استكمل أركانه وشروطه وانتفت موانعه الشرعية، في أي مكان سواء كان في المسجد أو البيت، أما إجراؤه على يد شيخ أو إمام المسجد أوفى المركز الإسلامي، فللاطمئنان على سلامة العقد من العيوب، وتوفر أركانه وشروطه، وللحصول على بركة المكان ودعوة المسلمين، وإعلانه وإظهاره بحضور جمهرة من المسلمين، وللتذكير بالأحكام الشرعية والواجبات والحقوق المترتبة على الزواج الإسلامي، والالتزام بها قدر المستطاع في الحياة الزوجية.
وهناك فرق بين كون الزواج صحيحا من الناحية الشرعية، وبين حل الإقدام عليه، وبين كون فاعله مرتكب إثما شرعيا، كالذي يصلى في الثوب المغصوب أو الأرض المغصوبة أو الذي يحج بالمال الحرام، فالصلاة صحيحة والحج صحيح لكنه أرتكب حراما.
وقد اعتبر العلماء توثيق وتسجيل عقود الزواج لدى الدوائر الرسمية للدولة في هذا العصر واجب شرعي، لحفظ حقوق المرأة والأولاد، والقانون يعتبر عدم توثيقه جريمة، لأن معظم القوانين في الدول العربية والإسلامية، وجميع دول العالم لا تعترف بالزواج غير الموثق، وتلزم الناس بتسجيله لدى السلطة الرسمية حتى تترتب عليه آثاره الشرعية والقانونية.
فكيف يقدم المسلم على عقد زواج غير معترف به في دولة تلزم مواطنيها والمقيمين على أرضها بوجوب تسجيله، وتعاقب على إجرائه قبل توثيقه! والمسلم مطالب أن لا يعرض نفسه للضرر كما هو مطالب أن لا يضر غيره، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" ([1]).
والمسلمة التي تقبل بعقد زواج لا يحفظ حقوقها ولا حقوق أولادها (النفقة، المرا ث، النسب، المتعة، الحضانة) واقعة في الإثم بسبب التفريط في هذه الحقوق، وهي تعلم علم اليقين أنه لا يمكن لأحد أن ينصفها ويجنبها من الظلم الذي قد يقع عليها عند النزاع أو الطلاق، وقد ينكر الرجل زواجه( كالرجل الذي اتهم بالتعدد فأنكر ذلك واعتبرهن خليلات والإسلام يبيح ذلك حسب ادعائه).
كما ورد عن أبى موسى الاشعرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا..." ([2]).
وفى رواية لأنس بن مالك" يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا"[3].
وقد يهجر الرجل زوجته بدون طلاق، وتنقطع أخباره فلا تعلم موته من حياته، فيدرها كالمعلقة، ولا تستطيع إثبات زواجها منه.
فإطلاق الحكم بعدم جواز العقد المدني في الدول غير الإسلامية قبل التحري والتحقيق كلام لا يقول به عاقل ولا فقيه.
فالعلماء مترددون بين صحته وفساده من جهة إخلاله بشرط أو اقترانه بمفسد قال إمام الحرمين " فإرادهم عقد النكاح على وجه يترددون في صحته وفساده من جهة مفسد مقترن أو إخلال بشرط فالوجه الحكم بالصحة كما تقدم ذكره"([4]).
ثم قال: "فمما لا يكاد يخفى اعتباره صورة العقد والإيجاب والقبول أما الولي والشهود فمما اختلف العلماء في أصله وتفصيله"([5]) وقال أيضا: "فإنا لو شرطنا في خلو الزمان العلم بانعقاد النكاح واشتماله على الشرائط المرعية وعروه عن المفسدات لما حكمنا بصحة نكاح أصلا مع دروس العلم بالتفاصيل"([6]).
فلا يمكن أن نطلب من المسلمين في الدول غير الإسلامية بعدم توثيق الزواج في بلديات الدول الغربية بحجه أنه زواج مدني "فإننا لو قلنا بذلك لوقع المسلمون في الضيق والحرج وترتب على ذلك مضار ومفاسد كثيرة".
فتعطيل النكاح يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله وهو السفاح، وقطع النسل، وإفناء النوع، وهى مفاسد أعظم من إخلال بشرط مختلف فيه بين العلماء في زواج المسلمين في الغرب.
جاء في أعلام الموقعين لابن القيم الجوزية: "وعلى هذا نهى الشارع (أن تقطع الأيدي في الغزو-وإقامة الحد في أرض العدو) خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا. كما قال عمر وأبو الدر داء وحذيفة" ([7]).
وباستقراء أحوال المسلمين في الغرب فإننا نجد لحوق بعض المسلمين من ضعاف الإيمان وقليلي الثقافة الإسلامية بغير المسلمين في المعاشرة غير الشرعية بين الرجل والمرأة، حمية وغضبا من جراء تصرف بعض المتشددين، وتعصب بعض الأولياء، وإتباع الهوى وغلبة الشهوة.
فكم من فتاة سقطت في الرذيلة والفساد العريض، ولجأت إلى الملاجئ والنوادي و جمعيات النسوة، والسبب في بعض الحالات، هي بعض الفتاوى الشاذة التي ترفض التوثيق، وتدعو إلى الامتناع عن إجراء الزواج في بلديات ومحاكم الدول الغربية، فصدوا الناس عن النكاح فوقعوا في السفاح.
فالمسلمون في الدول غير الإسلامية بحكم كونهم مواطنون أو مقيمون ملزمون بالامتثال للقوانين التي لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية، ويتقون الله تعالى في ذلك على قدر الاستطاعة، أما الشروط التي تتنافى مع الشريعة فلا عبرة بها.
ثم إنه يمكن للمسلم أن يعيد إجراء عقد الزواج مستكملا لأركانه وشروطه في نفس اليوم في مسجد أو مركز إسلامي، للاطمئنان على سلامة المعاشرة، والإعلان والإظهار، وللحصول على بركة المكان ودعوة المسلمين.
فحاجة المسلمين إلى الزواج وليس لهم طريق لتسجيل عقود زواجهم في الدول الغربية إلا المحكمة أو البلدية، فيتعين عليهم ذلك ويدخلون تحت حكم الضرورة والحاجة ورفع الحرج.
لكن هناك بعض المسلمين يمتنعون عن توثيق عقود زواجهم سواء كان ذلك في الدول الإسلامية أو الغربية.
فما هي الدوافع والحجج والأسباب التي دعت إلى غياب التوثيق؟
وما هي الآثار السلبية الدينية والاجتماعية والقانونية المترتبة على غياب التوثيق؟
[1] رواه احمد وابن ماجة وغيرهما صحيح سنن ابن ماجة للألباني رقم1909 /ج2/ص257/258.
[2] صحيح سنن أبى داود للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رقم4259/ج3/ص11-كتاب الفتن والملاحم باب النهى عن السعي في الفتنة.
[3] صحيح سنن الترمذي للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رقم2197/ج2/474 كتاب الفتن باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم
[4] غياث الأمم في التياث الظلم لإمام الحرمين أبو المعالي الجوينىص372.
[5] المرجع السابق ص370.
[6] المرجع السابق ص371.
[7] أعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن قيم الجوزية ص601 دار الكتاب العربي.
التسميات
توثيق الزواج