محمد فريد أبوحديد وكتابه عن صلاح الدين.. طرد الصليبيين من المشرق الإسلامي. مطامع أوروبا الدنيوية التوسعية تأخذ رداء دعوة دينية تبث بها حقدها القديم على سطوع الاتساع الإسلامي

من واقع الإحساس بخطورة الغزو الثقافي الغربي، الذي مازال يطمع في سلخ مصر المحروسة عن عروبتها وإسلامها لصالح محاكاة الغرب، نستطيع أن نفهم ونرى أي دور جهادي تنويري وإصلاحي هذا الذي اضطلع به مبكرا الجيل الأول من الرواد الذين نذكرهم اليوم بعرفان وامتنان حين نذكر منهم رائدا خالدا هو محمد فريد أبو حديد في ذكرى مرور 41 عاما على رحيله 18/5/1967.

يجدر بنا التعريف بمحمد فريد أبو حديد الذي ولد في أول يوليو 1893.
منذ أعماله الأولى: مذكرات المرحوم محمد (ألفها 1918)، وروايته الثانية «ابنة المملوك» (ألفها 1924، وتقع أحداثها أيام محمد علي بين سنوات 1804 و1807)، وصلاح الدين الأيوبي (1927)، حتى آخر أعماله «أنا الشعب» (ألفها 1953)، وترجمته الفريدة لمسرحية شكسبير «ماكبث» شعرا مرسلا (1957)، مرورا بقممه الأدبية: السيد عمر مكرم (دراسة لشخصية أنجزها 1937)، وروايته «زنوبيا» (ألفها 1940)، ولعلها أول أثر أدبي عربي يخلد ملكة تدمر، و«الملك الضليل.. امرؤ القيس» (ألفها 1942)، و«المهلهل سيد ربيعة» (ألفها 1943)، و«مع الزمان» (ألفها 1930)، و«عنترة بن شداد» (الفها 1945)، و«آلام جحا بين ماهوش وجانبولاد» (ألفها 1946)، وروايتيه الجميلتين للأطفال: «عمرون شاه» 1947))، و«كريم الدين البغدادي» (1950)، مع إنجازه الضخم في إقدامه الواعي لترجمة وتحقيق كتاب ألفريد بتلر الهام «فتح العرب لمصر» (عام 1932).. إلى آخر القائمة الطويلة من أعماله الخالدة.

كرس محمد فريد أبو حديد حياته الأدبية على مدى 50 عاما رائدا أصيلا وجنديا مثابرا في حركة المقاومة الثقافية التي خاضها المخلصون للثقافة المصرية ضد هجمة التغريب والاقتلاع من الجذور التي جاء بها الاحتلال الإنجليزي، ومن قبله الاحتلال الفرنسي. فكانت الغاية التي تمحورت حولها أعمال محمد فريد أبو حديد من البداية هي: أن يعرف الإنسان المصري نفسه عربيا ومؤمنا عزيزا من خلال تاريخه العظيم، لكي يحب تلك النفس فتثمر وتعطي تاريخا مستقبليا أعظم.

في يدي نسخة نادرة من دراسة تاريخية تحليلية جذابة عن (صلاح الدين الأيوبي وعصره) صدرت منذ 63 عاما للأديب الكبير الراحل (محمد فريد أبو حديد) أقدمها في ذكراه الثالثة والعشرين التي تحل في 18 مايو وأرشحها - كما رشحت من قبل كتاب الدكتور علي عبد الواحد وافي عن ابن خلدون - لكي تعيد سلسلة كتب الهلال نشرها إحياء لكتاب هام ووفاء لشامخ من شوامخنا الأدبية الكثيرة والعديدة التي تتناساها بقع الضوء الإعلامي في الصحف السيارة، عمدا أو جهلا أو تقصيرا، هذا التقصير - كما قلت من قبل - هو في حقيقة إنقاص من قدر مصر الثقافي والأدبي إذ تبدو وكأنها لا تملك في صدارتها الثقافية والأدبية والفنية والعملية سوى قمة أو قمتين أو خمس في حالتها القصوى، بينما تعج مكتباتنا وذخائرنا بالكنوز من أعمال الرجال والنساء الذين قدموا عن طيب خاطر - إلى حد الاستشهاد - حبات عقولهم وقلوبهم من أجل أن يدعموا المقولة التي نرددها دائما أن مصر (أم الدنيا) وأنها (قلعة الإسلام) و(صرح العلم) و (رائدة التنوير).. إلخ..

(محمد فريد أبو حديد) واحد من هؤلاء الشوامخ الذين تكاسلت عنهم الأبحاث في كليات الآداب بجامعاتنا، إذ استسهل الدارسون الخوض في المعروف والمطروق والذي كثرت عنه المراجع التي تمكن الناقل من النقل، والسارق من السرقة، والخامل من السير هادئا في الطرق المبعدة، والموّال في هذا الموضوع طويل ولكني مللت الأذان (في مالطة) وحسبنا الله ونعم الوكيل!

أصدر (محمد فريد أبو حديد) كتابه (صلاح الدين الايوبي وعصره) عام 1927 ليكون من بدايات التزامه الذي انتهجه على طول رحلته الأدبية التي تعدت النصف قرن: وهو الالتزام بالتعريف بأبطال الجهاد الإسلامي والأمجاد العربية والعزة المصرية، وأهمية ترشيح كتاب (صلاح الدين الايوبي وعصره) للقارئ الحديث تنبت من اعتقادي أن هذه الدراسة هي خير ما يمكن أن نستعيده في ظروف المحنة المعاصرة لمدينة القدس العزيزة والذكرى المشؤومة لقيام اسرائيل في 15 مايو حيث نسترجع اسم البطل صلاح الدين وانتصاراته الباهرة الباترة في تخليص بيت المقدس من قبل من أيدي طامعين أغراب أتوا من أوروبا تحت ستار من دعوى دينية متعصبة وتسببوا في أن تشرب منطقة (السلام) حوض دماء قرن كامل من الزمان.. وقيمة هذه الدراسة عن (صلاح الدين الأيوبي) هي في تناولها الصريح الصادق تحليل واستعراض هزائم (صلاح الدين) ومتاعبه قبل التعرض لانتصاراته وتفوقه الذي لم يكن ليبلغه دونما خبرة من تعب ومعاناة وصد وعنت..

ولضرورة أساسية قسم (أبو حديد) دراسته إلى كتابين:
الكتاب الأول: تمهيد لتاريخ صلاح الدين, ويبدأ من دعوة الإسلام وجهاده مع الأمم, وعلاقته بأمم أوروبا منذ القرن التاسع, ثم صراخ القسطنطينية الذي وجهه إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية إلى البابا ليدعو أمم الغرب من فرنجة وألمان وإنجليز إلى ما زعم أنه نصرة للصليب وتخليصه من أعدائه المسلمين على حد تعبيره .

دعوة خالدة
كانت طبيعة العصر في القرن الحادي عشر تستدعي أن تأخذ مطامع أوروبا الدنيوية التوسعية رداء دعوة دينية تبث بها حقدها القديم على سطوع الاتساع الإسلامي وتقدمه فقامت تستثير نزعة التعصب الأسود لدى شعوبها بتلك الدعوة الوقحة (تخليص بيت المقدس من المسلمين)! وبدأت جموعهم تتحرك في حرب غزو صليبية سنة 1092 و1097 حتى بلغوا الشام وأقاموا دولا أربعا اقتطعوها من أرض الإسلام وهي: (الرها).. و(أنطاكيا) و(طرابلس) و(بيت المقدس).. وجعلوا السيطرة في يد حاكم بيت المقدس.

وقد غر الصليبين هذا الانتصار الأول وحسبوا أن التصدع الظاهر في الدولة الإسلامية يعني أنهم قد غنموا إلى الأبد ما طالته أيديهم ولكن ذلك التصدع لم يكن حقيقيا، ويقول أبو حديد: (إن الدولة الإسلامية مالت أمام الموجة القوية ولم تكن هزيمتها انكسارا.. ولم يكن الناس في شك من أن مآل تلك الموجة، التي أتت من وراء البحر، إلى الضعف وأنه لا بد من الانتصار عليها وردها من حيث جاءت بعد حين. وقد ظهرت هذه العقيدة في كثير من الوجوه فما كادت الأمة تفيق من الصدمة الأولى حتى أخذ رجالها يعملون على إظهار مكنونها وكان أول من أظهرها أتابك - أي الأمير - عماد الدين زنكي صاحب الموصل الذي استولى على إمارة الرها في عام 1144 - حوالي نصف قرن من بعد وقوعها في يد الصليبيين.

ويورد لنا الكتاب الأول كيف أن الصليبيين دبروا بعد ذلك مكيدة لقتل عماد الدين زنكي، لكنهم لم يفلحوا في كسر القرية التي استقر عليها أهل المنطقة في طرد الدخلاء الغرباء. فيظهر بعد "عماد الدين" ابنه "نور الدين" الذي حمل عزم أبيه على تحرير الأرض من الغزاة.

وقد ترعرع بطلنا "صلاح الدين يوسف بن أيوب" في جيش هذا الأمير العظيم.
كانت أول معرفة صلاح الدين بمصر عندما ذهب إليها مع عمه "أسد الدين شيركوه" الذي كان يرأس جيشًا أرسله الأمير نور الدين استجابة لطلب النجدة الذي بعث به الأمير "شاور" ليتغلب على منافسه في حكم مصر الأمير "ضرغام" - وكان ضرغام قد استعان بملك الصليبيين ضد شاور!

الكتاب الثاني: في هذا القسم ينتقل بنا أبو حديد ليبلور لنا الدراسة فتنحصر في خط تطور شخصية صلاح الدين منذ أن بدأ جنديا شابا في جيش بقيادة عمه شيركوه إلى وزير يحكم مصر ولقبه "الملك الناصر"، إلى سلطان يوليه الخليفة العباسي على مصر والشام, إلى البطل المجاهد المعروف ذكره لنا بوصفه "محرر القدس الشريفة".

صلاح الدين والمهمة الصعبة
اتضحت لصلاح الدين مسئوليته الحقيقية في المنطقة منذ أن تولى حكم مصر، وكانت المسئولية التي حملها ربع قرن منذ لحظة رئاسته على مصر إلى نهاية حياته: هذه المسئولية هي: أن يختفي الصليبيون من المشرق الإسلامي، ويقدم لنا أبو حديد بالتفصيل المهمة الصعبة التي جابهت صلاح الدين، فمهمة صلاح الدين للأسف لم تكن خالصة لمواجهة الفرنج وحدهم، بل كان عليه أن يواجه قبلها العديد من المشكلات المحلية، سواء المشكلات المثارة من جبهة القواد الحاقدين عليه في مصر أو الأمراء المسلمين أو الإسماعيلية الذين دسوا وحاكوا له المؤامرات المتكررة متواطئين مع (الفرنج) وملكهم الصليبي في بيت المقدس.

وكانت أشهر المؤامرات التي دبرتها تلك الفئات هي مؤامرة 1173 م منتهزين فرصة غياب صلاح الدين عن مصر لمحاولة فتح حصن (الكرك) - وكان أمنع حصون الفرنجة في فلسطين - وفرصة انشغال جزء من جيوشه في حملة اليمن رغبة منه في أن يملك طرف البحر الأحمر من الجنوب كما ملك ثغر "أيلة" على رأسه من الشمال - وهو مكان ما يسمى الآن ميناء "إيلات" - ليمنع الخطر الذي كان يهدد البلاد المقدسة، إذ كان الصليبيون يفكرون في حشد أساطيل عظيمة في ذلك البحر للإغارة على الحجاز.

ولحسن الحظ تنبه صلاح الدين للمؤامرة قبل أن تنفذ الخطة فأحبطها وكان من زعماء المؤامرة "عمارة اليمني الشاعر" الذي كان يباهى بأنه هو الذي أفسح السبيل للمتآمرين بأن أغرى "شمس الدولة" - وهو أخو صلاح الدين - بالذهاب في حملة إلى اليمن ليتم إبعاد جزء كبير من الجيش عن مصر.. والطريف أن "الفرنجة" لم يعلموا بخبر إحباط المؤامرة فجاءوا حسب الخطة القديمة من البحر إلى الإسكندرية في يوليو 1174م يحسبون - كما يقول أبو حديد: "أنهم سيضربون جبهة صلاح الدين يصدعونها على حين يخرج أحلافهم الخونة من خلفه فيجهزون عليه ولكن خاب ما أملوا".

يسير بنا المؤلف بعد انقضاء المؤامرة إلى حيث تتطور الحوادث بسرعة حول صلاح الدين حين يموت نور الدين في الشام ويتنازع الأمراء دولته: كل يحاول الاستقلال بإمارته استخفافا بالملك الجديد الذي كان صبيا في الحادية عشرة من عمره. وأمام اختلاف الأمراء المسلمين يطمع الصليبيون في استرداد ما أخذه منهم الملك الراحل, ونقرأ مع أبي حديد هذا الأمر: "فثاروا بالشام - أي الفرنجة - وذهبوا إلى قرب دمشق وكان أبناء نور الدين ووزراؤهم على غير ما عهد الفرنج من أبيهم العظيم.. ظن الفرنج الذين اشتركوا في التآمر على صلاح الدين أنهم يستطيعون أن يضربوا ضربتهم لتكون قاتلة، فاجتمعت لهم سفن كثيرة من الشام وصقلية بلغت عدتها نحو 282 سفينة وجاؤوا إلى الإسكندرية ونصبوا المجانيق في يوليو 1174م.. ولكن شتان بين مالقيهم به صلاح الدين، وبين ما لقيهم به وزير الملك الصالح بدمشق.. فقد كان أهل مصر واثقين بقائدهم وحاكمهم ولهذا أبدى أهل الإسكندرية من الشجاعة ما أدهش المهاجمين.. ثم بلغ الأمر صلاح الدين فأسرع بجيش إلى الإسكندرية وبالغ في الاحتياط فأرسل جيشا آخر إلى دمياط.. وهزم الفرنج وغرقت لهم سفن كثيرة وفشلت حملتهم فشلا تاما".

خيانة
في تلك الفترة عرف شعب مصر أن صلاح الدين رجل لم يعهدوا مثله، وكان من الممكن أن يخلد صلاح الدين في هدوء إلى نجاحه في مصر متمتعا بحب شعبها وإخلاصه له, لكنه لم يكن لينسى دوره الباقي في الخلاص من الصليبيين فإلى أي مدى يمكن أن يدوم هدوء مصر وهناك أغراب جوارها لا تهدأ مطامعهم ولا يكف عدوانهم.

يستجيب صلاح الدين لدعوة دمشق ويعلن أنه ذاهب لنصرة الملك الصالح - الصبي الصغير - وليمنع اعتداءات الأمراء عليه مع اعتداء الفرنج على البلاد.

ويصادف ما لا يمكن أن يتصوره من خيانة هؤلاء الأمراء الانتهازيين الملتفين حول الملك الصغير، إذ يرسلون إلى (الفرنج) يطلبون مساعدتهم ضد صلاح الدين!!

بل ويرسلون إلى طائفة الباطنية الإسماعيلية لكي يرسلوا - كما يقول أبو حديد - (فتّاكيهم يغتالون الرجل المخيف الذي قد يعجزون هم وحلفاؤهم عن مقاومته صراحة في ميدان النضال الشريف).. وكانت هذه العداوة الدنسة التي أظهرها أمراء الملك الصالح سببا في أن يعلن صلاح الدين استقلال مصر 1175م عن دولة الملك الصالح ولقبه الخليفة العباسي سلطانا لمصر.. واختار صلاح الدين أن يتفرغ ست سنوات هادئة نوعا ليقيم إصلاحاته في داخل مصر متنقلا بينها وبين الشام التي كانت تستلزم وجوده كلما ناوش الصليبيون جبهتها، ولكنه لم يخض مع الصليبيين في تلك الفترة حربا عنيفة أساسية كالتي بدأت بعد 1177م.

بعد فترة الهدوء بدأت أول حلقة من سلسلة مواقع صلاح الدين مع الفرنج ولكن صلاح الدين ابتدأ حروبه بانهزام عظيم سنة 1177 م عند الرملة وكان سببه نقص في احتراس وتراخ في النظام عندما كان جيشه يعبر نهرا.. وكانت كسرة الرملة ذات أثر كبير في نفسه..
فقد أطمعت نكسته الأعداء فساروا إلى حماه وأغاروا على حمص وكان صلاح الدين قد عاد إلى مصر ليصلح ما أفسدته الهزيمة ثم عاد بعد ذلك إلى الشام وكانت عودته في الوقت المناسب: "لأن الصليبيين كانوا يسيرون بين حلب ودمشق في جرأة لم تعهد منهم منذ نصف قرن".. ولأن صلاح الدين كان قد تعلم من هزيمته ما كان قد أغفله رجحت كفة قواته منذ عودته إلى الشام وهزم أعداءه قرب دمشق بعد عام من هزيمته في الرملة وسقط للفرنج "مخاضة الأحزان" بالقرب من دمشق وكانت هذه هي بداية مواقعه الكبرى ونجاحه في الاستيلاء على حصن الكرك الذي كان أحد العقبات التي اعترضته، إذ كان انتصاره يعني تغلبه على البرنس "رجنالد دي شاتيون" أقسى أمراء الفرنج وأكثرهم غدرا والغريب الذي ينوه به دائما أبو حديد أن صلاح الدين في أثناء هذه المعارك المصيرية لم يكن خالصا من متاعب بعض جيرانه المسلمين الذين لم يكفوا عن التآمر ضده والتحالف مع أعدائه الصليبيين.

ويذكر الكتاب أنه أثناء حروب صلاح الدين في الشام كانت الأساطيل المصرية في البحر الأبيض والبحر الأحمر تحرز انتصارات باهره على الفرنج، فانتصر "حسام الدين لؤلؤ" القائد البحري المصري عند ميناء "أيلة" على رأس خليج العقبة ثم عند ميناء ساحل الجوزاء في شمال الحجاز على جماعة من الفرنج أرسلهم البرنس "رجنالد دي شاتيون" ليوقعوا بالمسلمين الذاهبين إلى الحج, ونتيجة لنشاط وبطولة الأسطول المصري اضطر الصليبيون إلى عقد هدنة مع صلاح الدين لمدة أربع سنوات.

في كتابه هذا الشيق الذي يمتزج فيه الأدب مع البحث في تأمل جياش للتاريخ يطرح محمد فريد أبو حديد سؤالا، لعله راود الكثير ممن كانوا في عصر صلاح الدين، فيقول وهو يعطي مع تساؤله الإجابة: هل كان صلاح الدين ليقنع بدولة.. ويرجع إلى مصر ليضع أساس ملك ثابت الأركان؟ أم كان لا بد له من الاستمرار في الحرب إلى نهايتها؟

لا حاجة بنا لأن نقف طويلا مترددين عند هذا السؤال فقد كان صلاح الدين وارث دولة نور الدين وكان عليه عبء الاستمرار في جهاده مع الفرنج وما كان ليقدر أن ينتحي وادعا مسالما ولا يزال الخلاف بين الشرق والغرب على أشد ما يكون ولم تخب ثائرته، ولو أنه استطاع ذلك وقعد عن الحرب لاضطر إلى الدفاع عن دولته بعد قليل لأن الفرنج كانوا إذا شعروا بهدوء في هجوم المسلمين قاموا إلى تحقيق حلمهم القديم وهو تكوين دولة صليبية عظيمة في أحشاء الشرق الأدنى.. إذن فقد كان من الطبيعي لرجل يرى نفسه حارسا على أمانة، أكثر منه سلطانا على بلاد، أن يجمع قوته الهائلة، في توحيد أرض الشرق الإسلامي ويستعد ليقذف بها الصليبيين فيرهبهم إلى ما وراء البحر الذي أتوا منه، وكان الصليبيون من جانبهم حانقين على تلك القوة العظيمة التي بناها صلاح الدين في موجهتهم، وأصبح الصراع واضحا: لم يعد الأمر إرساء دولة صليبية في الشرق الإسلامي فقط بل لا بد كذلك من تصديع قوة صلاح الدين والإطاحة به شخصيا كرمز لكل هذه النهضة الإسلامية الجديدة.

لذلك لم يكن غريبا أن يسرع الصليبيون بخرق الهدنة قبل موعد انتهائها بعام, فهاجموا قافلة كانت بها ابنة صلاح الدين مما أدى إلى نشوب الحرب الكبرى بينهم وبين صلاح الدين، تلك الحرب التي بدأت 1187 واستمرت ست سنوات متصلة وانتهت بانتصار صلاح الدين الأيوبي وجيشه، الذي كان قوامه من المصريين, بعد أن سلم الفرنجة بكل شروطه عند توقيع صلح الرملة في سبتمبر 1192 (ألا يجدر بنا الاحتفال بهذه الذكرى عام 1992).

ويفرد أبو حديد في كتابه تفاصيل خطة موقعة "حطين" الشهيرة التي كانت أعظم انتصارات صلاح الدين والتي قيل فيها: "وكان من يرى الأسرى لكثرتهم لا يظن هناك قتلى فإذا رأى القتلى حسب أنه لم يكن هناك أسرى!".

استعادة بيت المقدس
بعد حطين اندفع تيار النصر أمام صلاح الدين فكسب عكا ويافا وسار إلى قلب فلسطين واستعاد للإسلام كل ما كان بين بيت المقدس والساحل مستهدفا استرداد بيت المقدس الشريف من أيدي الصليبيين الذين اغتصبوه قرابة قرن كامل!

واستماتت جموع الصليبيين للاحتفاظ بالقدس غير أنهم لم يستطيعوا الصمود أمام حصار صلاح الدين أكثر من أسبوع وأرسلوا له بشروط التسليم فتردد صلاح الدين ليأخذ المدينة عنوة ليثأر من الفرنج نظير ما فعلوه بالمسلمين يوم دخلوا القدس غزاة مغتصبين، ولكن غلبت عليه أصالته الإسلامية وقبل الصلح وأظهر من التسامح والكرم عند تسلمه المدينة المقدسة مالم يحفظه الصليبيون عند أخذهم عكا بعد ذلك.

فقد تسامح صلاح الدين في تنفيذ الغرامة على نساء الفرنج وشيوخهم وأطفالهم حتى إنه أطلق لملكة بيت المقدس الصليبية مالها وحشمها وأكرم رجال الدين من القساوسة فخرج كبيرهم مع أمواله وتحف الكنائس وكنوز ذات قيمة عظيمة، وأرسل معهم من يوصلهم ويحميهم حتى مدينة صور! وكان هذا تماما نقيضا لما فعله الصليبيون عند غزو بيت المقدس ونقيضا لما قاموا به بعد ذلك بأربع سنوات عندما قتلوا الأسرى المسلمين, وخرقوا معاهدة تسليمهم مدينة عكا!
صافيناز كاظم

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال