معارك سلمة:
تُعدّ قرية سلمة الفلسطينية، الواقعة على طريق يافا-اللد الحيوي، والذي كانت تسلكه القوات البريطانية من وإلى معسكر ليتفينسكي، شاهدة على بطولات وتضحيات جسيمة في وجه الاعتداءات الصهيونية إبان نكبة عام 1948. لم تكن سلمة مجرد قرية، بل كانت حصناً للصمود والمقاومة في وجه الهجمات المتكررة والمخططات الرامية إلى تهجير أهلها.شرارة المقاومة الأولى والاستعداد للدفاع:
بدأت التحرشات الصهيونية بأهالي سلمة منذ الأول من ديسمبر عام 1947. في حادثة لافتة، اعتدى مستوطنو "هتيكفا" الصهيونية على مزارع عربية، مما استفز شبان سلمة، فكان ردهم حاسماً وسريعاً: قتل اثنين من الصهاينة في نفس اليوم والمكان. هذه الحادثة، التي كانت بمنزلة الشرارة الأولى، دفعت أهالي سلمة لاتخاذ خطوات استباقية للدفاع عن أنفسهم وقريتهم.
تحسباً لأي رد انتقامي، انتخب أهالي سلمة لجنة دفاع مكونة من سبعة أعضاء. كانت مهمة هذه اللجنة تنظيم شؤون الدفاع، والإشراف على الحراسة الدائمة على أطراف القرية، بالإضافة إلى جمع السلاح والذخيرة من القرى المجاورة. هذا الاستعداد الجيد والتنظيم المحكم جعل الصهاينة يُدركون صعوبة شن هجوم مباشر على القرية، فامتنعوا عن ذلك مبدئياً. ومع إدراكهم لصلابة المقاومة المتوقعة، لجأ الصهاينة إلى تكتيك آخر، وهو القصف اليومي المستمر على سلمة. لكن هذا القصف لم يثنِ سكان القرية عن صمودهم، بل زادهم إصراراً على البقاء والرد على النيران بالمثل، مما يعكس روح المقاومة والشجاعة التي تمتعوا بها.
مجزرة يازور وتدخل الجيش البريطاني المشبوه:
في الثامن عشر من ديسمبر 1947، وقعت مجزرة مروعة في قرية يازور المجاورة، حيث ارتكب الصهاينة المجزرة وهم يرتدون زي الجيش البريطاني. هذا التكتيك الماكر أثار مخاوف كبيرة لدى سكان سلمة من أن يتكرر المصير نفسه معهم، وأن يتم استهدافهم من قِبل قوات متنكرة بزي القوات البريطانية.
وفي محاولة لتجنب هذا السيناريو، طلب أهالي سلمة من اللواء البريطاني التدخل لمنع وحدات الجيش البريطاني من المرور عبر قريتهم، خاصة في ظل الشكوك التي حامت حول بعض تصرفات الجيش. لكن رد اللواء كان مخيباً للآمال، حيث ادعى عدم قدرته على فرض رأيه على الجيش، وهو ما أثار شكوكاً حول حيادية القوات البريطانية وتواطئها المحتمل.
المواجهة مع القوات البريطانية والتداعيات:
بعد يومين فقط من مجزرة يازور والرد البريطاني السلبي، مرت سيارة نقل بريطانية بالقرب من سلمة. في ظل الأجواء المشحونة والشكوك المتزايدة، هاجمها المناضلون من سلمة، وأحرقوها، وجرحوا سائقها، واستولوا على سلاحه.
هذا التصرف أثار غضب القائد العسكري البريطاني، الذي توجه بقوة كبيرة إلى القرية. لم يكن هدفه التحقيق في مجزرة يازور أو الاعتداءات الصهيونية، بل كان مطالباً بإعادة بندقية السائق ودفع مبلغ خمسة آلاف جنيه استرليني كتعويض عن جرح السائق وحرق الشاحنة. وعندما رفض الأهالي الاستجابة لهذه المطالب التي اعتبروها ابتزازاً وظلماً، قامت القوات البريطانية باعتقال عدد من سكان القرية، ومن ضمنهم أعضاء لجنة الدفاع.
بعد مفاوضات طويلة وشاقة، وافقت السلطات العسكرية البريطانية على قطع طريق يافا الرئيسي الذي يمر بالقرية، وإطلاق سراح المعتقلين. ولكن هذه الخطوة لم تكن لخدمة أهل سلمة بشكل كامل. فقد قامت القوات البريطانية بـزرع أعمدة أسمنتية حول القرية بحجة ضمان قطع الطريق ومنع المرور. في الواقع، كان الهدف الحقيقي لهذه الأعمدة هو منع أي إمدادات (سواء أسلحة أو مؤن أو حتى تعزيزات بشرية) قد تصل إلى سلمة من القرى الفلسطينية المجاورة، مما يضع القرية تحت حصار فعلي ويزيد من عزلتها.
الهجوم الصهيوني المضاد والصمود البطولي:
بمجرد مغادرة القوات البريطانية وترك سلمة معزولة نسبياً، شن الصهاينة هجوماً قوياً عليها. لكن أهالي سلمة، برغم الحصار ونقص الإمدادات، تصدوا للهجوم ببسالة وكبّدوا المهاجمين خسائر فادحة، مما أجبرهم على التراجع.
المفاجأة لم تتوقف عند هذا الحد، فقد شن الصهاينة هجوماً آخر من شمال القرية. لكن مناضلي سلمة، الذين أظهروا روحاً قتالية عالية، استطاعوا صد هذا الهجوم أيضاً. وفي الليلة نفسها، قام المجاهدون بـهجوم معاكس جريء على مستوطنة "هتيكفا" التي كانت مصدر التحرشات الأولى. أشعلوا النيران في بعض منازل المستوطنة، مما أدى إلى فرار سكانها مذعورين، تاركين وراءهم ستة وعشرين طفلاً. وفي لفتة إنسانية تعكس أخلاق المقاومة الفلسطينية، قام المجاهدون بتسليم هؤلاء الأطفال إلى السلطات البريطانية، رغم العداء والتوتر.
وصلت قوات صهيونية جديدة لنجدة مستوطنة هتيكفا، وفي المقابل، وصل مناضلون من مدينتي اللد والعباسية لنجدة سلمة، مما يؤكد على التضامن الفلسطيني في تلك المرحلة الحرجة. طارد المناضلون الصهاينة حتى مشارف مدينة تل أبيب، وأحرقوا بعض منازل مستعمرة "شابيرو" الصهيونية. هذا التقدم أثار قلق السلطات البريطانية ورئيس بلدية تل أبيب، مما دفع بالقوات البريطانية إلى التدخل مرة أخرى، وأجبرت المناضلين الفلسطينيين على التراجع.
الحصار الأخير وسقوط القرية:
بعد هذه الأحداث، أحاطت القوات البريطانية بسلمة من كل جانب، مبررة ذلك بأنه يهدف إلى "الفصل بينها وبين المستعمرات المجاورة". لكن الهدف الحقيقي من هذا الحصار كان إعطاء الصهاينة فرصة ذهبية لتحصين مستعمراتهم دون مقاومة، استعداداً لهجماتهم المستقبلية. وبمجرد أن انتهى الصهاينة من تحصين مواقعهم، انسحبت القوات البريطانية، تاركة سلمة مرة أخرى تحت رحمة الهجمات الصهيونية.
تمكن سكان سلمة من الصمود بشكل بطولي حتى أواسط أبريل 1948. لقد قاوموا ببسالة، لكن المقاومة لا يمكن أن تستمر بلا نهاية في ظل ندرة الإمدادات. مع مرور الوقت، نفدت ذخيرتهم، ومع وصول الخبر المأساوي بسقوط مدينة يافا في 28 أبريل 1948، أيقن أهل سلمة أن المعركة أصبحت غير متكافئة. بدأ السكان في مغادرة القرية، مرغمين على النزوح بعد صمود أسطوري. ورغم أن سلمة كانت فارغة نسبياً من أهلها المقاومين، فإن الصهاينة لم يجرؤوا على دخول القرية إلا بعد أيام قليلة من هجرة أهاليها، مما يؤكد على حجم المقاومة الشديدة التي واجهوها، والتي بقيت في ذاكرتهم حتى بعد رحيل السكان.
خلاصة:
لقصة سلمة أهمية بالغة في فهم ديناميكية الصراع خلال النكبة، حيث تُظهر قوة المقاومة الشعبية، تواطؤ بعض القوى الدولية، وتصميم الشعب الفلسطيني على الدفاع عن أرضه حتى آخر رمق.
التسميات
معارك