اللغة واللهجة في الشعر الجاهلي: دراسة نقدية لحجج طه حسين وتأكيد دور الفصحى الأدبية في العصر الجاهلي

الجدل حول أصالة الشعر الجاهلي واللهجات العربية: رؤية طه حسين وموقف النقاد

لطالما كان الشعر الجاهلي محور جدل واسع في الأوساط الأدبية والتاريخية، خاصة فيما يتعلق بمسألة أصالته وصدقه وتمثيله للواقع اللغوي والاجتماعي للعرب قبل الإسلام. يُعد عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، من أبرز الشخصيات التي أثارت هذا الجدل، مقدماً حججاً قوية شككت في كثير من المسلمات حول هذا الشعر.


حجج طه حسين في التشكيك بأصالة الشعر الجاهلي: التباين اللغوي واللهجات

يتناول طه حسين في طرحه نقطة جوهرية تتعلق بـ اللغة واللهجات العربية الشمالية، محاولاً اتخاذها مطعناً جديداً في أصالة الأدب الجاهلي وصدقه. ينطلق حسين من فرضية تاريخية ولغوية مفادها أن الرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل ظهور الإسلام. ويستشهد بأن الإسلام نفسه جاء ليقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيراً من تباين اللهجات عبر اللغة القرآنية الموحدة.
يقدم طه حسين حجته بتسلسل منطقي:

فرضية التباين الطبيعي:

يرى أنه من المعقول جداً أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية (وحتى القحطانية) لغتها ولهجتها ومذهبها الخاص في الكلام، نظراً للتوزع الجغرافي الواسع والانعزال النسبي بين القبائل قبل ظهور الإسلام. هذا التباين اللهجي هو ظاهرة طبيعية ومتوقعة في أي بيئة لغوية لا تتوحدها سلطة مركزية أو وسيلة اتصال قوية.

غياب التباين في الشعر الجاهلي المروي:

المشكلة التي يطرحها طه حسين هي أننا لا نرى شيئاً من هذا التباين اللغوي أو اللهجي في الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا. ويضرب أمثلة بالقصائد المشهورة مثل المعلقات السبع، التي تُعتبر نماذج للشعر الجاهلي "الصحيح" من وجهة نظر أنصار القديم.

  • يُشير إلى أن هذه المطولات تضم قصائد لشعراء من قبائل مختلفة ومتفرقة جغرافياً:
    • امرئ القيس من كندة (تُنسب أحياناً إلى قحطان).
    • زهير بن أبي سلمى، عنترة بن شداد، ولبيد بن ربيعة، وجميعهم من قبيلة قيس عيلان.
    • طرفة بن العبد، عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وجميعهم من ربيعة.


وحدة الخصائص الشعرية:

يؤكد طه حسين أن القارئ يستطيع أن يقرأ هذه القصائد السبع دون أن يشعر فيها بـأي اختلاف في اللهجة، أو تباعد في اللغة، أو تباين في مذهب الكلام. بل يلاحظ أن:

  • البحر العروضي هو هو: تستخدم نفس الأوزان والقوافي دون اختلاف يذكر.
  • قواعد القافية هي هي: تتبع نفس القواعد الصارمة.
  • الألفاظ مستعملة في معانيها نفسها: لا يوجد تباين كبير في دلالات الألفاظ بين قبيلة وأخرى، بل تُفهم الألفاظ بنفس المعنى كما هو الحال عند شعراء المسلمين.
  • المذهب الشعري هو هو: لا توجد فروق جوهرية في الأسلوب أو الطريقة الفنية. كل هذه الملاحظات تدفع طه حسين للاستنتاج بأن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيراً ما.

الاستنتاج الصادم:

بناءً على هذه الملاحظات، يضع طه حسين خيارين لا ثالث لهما:
  • إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف لغوي أو لهجي أو في المذهب الكلامي بين القبائل العربية (عدنان وقحطان)، وهو أمر يراه غير منطقي تاريخياً.
  • وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل فعلاً، وإنما حمل عليها بعد الإسلام حملاً، أي أنه نُحل ونُسب إليها في عصور لاحقة. يُفضل طه حسين الخيار الثاني، مؤكداً "نحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى. فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان".

الرد على طه حسين: نظرية "اللغة الموحدة" أو "اللغة الأدبية الفصحى"

على الرغم من قوة طرح طه حسين وجرأته، فإن الكثير من النقاد واللغويين، وفي مقدمتهم النص الذي بين أيدينا، يرون أن طه حسين قد جانبه الصواب في استنتاجه النهائي. يعتمد هذا الرد على فكرة أن الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا لم يكن يعكس اللهجات اليومية لكل قبيلة، بل كان يُنظم بلغة أدبية فصحى موحدة.

وجود لهجة أدبية فصحى:

يؤكد النقاد أن ما بين أيدينا من شعر جاهلي يدل دلالة قاطعة على أن القبائل العربية الشمالية قد اصطلحت فيما بينها على لهجة أدبية فصحى، وهي لغة الشعر والخطابة والمفاخرة. كان الشعراء، على اختلاف قبائلهم وتباعدها الجغرافي، ينظمون شعرهم بهذه اللغة المشتركة.


"اللغة الموحدة" وعملية التنقية:

تُسمى هذه اللغة بـ"اللغة الموحدة" أو "اللغة الأدبية المشتركة". وقد مرت هذه اللغة بعملية تنقية وتهذيب مستمرة عبر العصور، حيث:

  • ما استجيد منها ضُمّ إلى الفصحى رصيداً لغوياً: أي أن أجمل وأفصح الألفاظ والتعبيرات من مختلف اللهجات القبلية كانت تُضاف إلى هذه اللغة الأدبية.
  • ما استقبح نُفي عنها وأُبعد منها: الألفاظ والتعبيرات التي كانت تُعتبر "معيبة" أو "قبيحة" أو خاصة جداً بلهجة معينة، كانت تُستبعد من هذه اللغة الأدبية وتظل محصورة في "اللغة العادية"، أي لغة الحياة اليومية والتخاطب العادي بين أفراد القبيلة.


سبب وجود اللغة الموحدة:

كانت هذه اللغة الموحدة ضرورية جداً لعدة أسباب:

  • استيعاب الاحتياجات العليا: إنها اللغة القادرة على استيعاب كل الاحتياجات على المستويات العليا للمجتمع، كإلقاء الخطب في المؤتمرات (مثل أسواق عكاظ)، وصياغة الاتفاقيات، وإبرام المعاهدات بين القبائل.
  • منبر الشعر في الأسواق: كانت هذه اللغة هي الوسيلة التي يُلقى بها الشعر في الأسواق والمحافل الأدبية الكبرى، حيث يجتمع شعراء ومستمعون من قبائل مختلفة.
  • لغة صفوة الناس: كان الذين يتعاملون بهذه اللغة الأدبية هم صفوة من الناس، تميزوا بسعة الثقافة، ورقة الإحساس، ورفعة الذوق. كان من الطبيعي أن تكون لهم لغة خاصة بهم، تسمو على لغة الحياة اليومية وما فيها من لهجات قد يرونها "معيبة وقبيحة"، وبالتالي يجب الترفع باللغة النموذجية عنها.

تأكيد بروكلمان:

يدعم المستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان هذه الفكرة، حيث قال: "ولا شك أن لغة الشعر القديم هذه لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكد تكون لغة جارية في الاستعمال العام، بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات، وإن غذتها جميع اللهجات". هذا التصريح يؤكد أن اللغة الأدبية لم تكن اختراعاً لاحقاً، بل كانت موجودة ولكنها تختلف عن لغة الحياة اليومية، وتستمد قوتها وغناها من جميع اللهجات.

ضرورة المقارنة والمفاضلة:

يُشير النقاد إلى أنه لو كان كل شاعر ينظم شعره بلغته الخاصة ولهجة قبيلته، لكانت عملية المقارنة والموازنة والمفاضلة بين الشعراء مستحيلة. يتساءل النص: "فمن يكون الحكم، ولأي لهجة تعطى الأولوية، وفيم تتبارى الهمم، وتتنافس القدرات، إذا لم تكن وحدة اللغة قاسماً مشتركاً حتى يمكن المقارنة والموازنة، وبالتالي المفاضلة." هذا يوضح الحاجة المنطقية لوجود لغة مشتركة لتقييم الأعمال الأدبية.

رأي إبراهيم أنيس:

يُعضد اللغوي المصري إبراهيم أنيس هذا الرأي بقوله: "كان لا بد لأولئك الشعراء الذين جاؤوا من بيئات متباينة أن ينظموا شعرهم بلغة خالية من عنعنة أو عجعجة أو كشكشة لينال إعجاب سامعيه، ولا يكون موضع سخريتهم وهزئهم، وإلا فكيف كان من الممكن أن يفضل شاعر على شاعر في تلك المناظرات إذا كان القياس مختلفاً، وأداة القول متباينة". يشير أنيس هنا إلى أن الشعراء كانوا يتجنبون استخدام الخصائص اللهجية الصوتية المميزة (مثل العنعنة والعجعجة والكشكشة) التي قد تجعل شعرهم غير مفهوم أو مثير للسخرية لدى مستمعين من قبائل أخرى، مما يؤكد وجود لغة أدبية معيارية مشتركة.

الخلاصة: الشعر الجاهلي ولغة الفصاحة الأدبية

في الختام، بينما أثار طه حسين نقطة هامة حول التباين اللهجي، فإن الرد النقدي يؤكد على أن الشعر الجاهلي لم يكن يعكس هذا التباين، بل كان نتاجاً لـلغة أدبية فصحى موحدة. هذه اللغة كانت بمنزلة "اللغة العليا" أو "لغة الشعر" التي استخدمها الشعراء البارزون من مختلف القبائل، مما سمح بتباريهم وتنافسهم الأدبي، وأتاح قيام حركة نقدية ومفاضلة بين أعمالهم. هذا لا ينفي وجود اللهجات العامية، بل يضع الشعر الجاهلي في سياق لغوي أدبي خاص به، مميز عن لغة الحياة اليومية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال