الفخر في معلقة عمرو بن كلثوم أنشودة تغلب.. قبيلة متمردة ما خضعت يوما لملك تحمي من يلوذ بها من قبائل العرب وتطاعن بالرماح وتضرب بالسيوف



يبدو أن طبيعة النظام الجاهلي الذي تحكم في إذابة الشخصية الفردية في كيان القبيلة الاجتماعي أدى إلى أن تصبح التجربة القبلية مدار أغراض الشعر، وفنونه بوجه عام.

ومن هنا صح أن يقال: إن الشعر كان سجل الحياة الاجتماعية وتأريخها الإنساني.
وخير من يمثل هذا الاتجاه القبلي العنيف عمرو بن كلثوم في معلقته التي سماها أحد الدارسين "أنشودة تغلب".

وفي هذه المعلقة يعرض لنا فارس تغلب صورة قبيلة متمردة، ما خضعت يوماً لملك، وما رعت له حرمة، كالرحى في القبائل، تسحق منها مَنْ تشاء، وتبقي مَنْ تشاء، ورثت الأمجاد خلفاً عن سلف، ووقفت دونها تحميها، وتحمي من يلوذ بها من قبائل العرب، تطاعن بالرماح، وتضرب بالسيوف، وتشق رؤوس القوم شقاً "فتخليها الرقاب  فيختلينا".

وأما جماجم الأبطال فتتدحرج فوق سطح الأرض تدحرج الحجارة فوق منحدر من الأرض صلب، كيف لا وشباب تغلب يرون القتل مجداً، ويطلبونه كما يطلبون زاد الحياة، على رأسهم شيوخ محنكون.

بأولئك الشباب، وبهؤلاء الشيوخ يتحدى ابن كلثوم بلسان تغلب كلها أمم الأرض قاطبة،.. ما حاول أحد قط أن ينال منها إلاّ وعادت محاولته بالوبال عليه.

فيها من الأمجاد ما يجعلها أصلب من أن تلين: أمجاد علقمة بن سيف، ومهلهل، وكليب، "فأي المجد إلاّ قد ولينا". وعلى رؤوس محاربي تغلب خوذ فولاذية بيضاء، وفي أيديهم سيوف تعلو وتسفل، وتقطع الأعناق.

أما وراء هؤلاء الفرسان من تغلب فنساء جميلات، "خلطن بميسم حسبا ودينا"، يتفانى الرجال في الذود عنهن ويحولون دون سبيهن، ودون هوانهن.

وهؤلاء النسوة يشجعن رجالهن في الحروب، ويقمن على خدمتهم، ويقلْن لهم: إذا لم تستطيعوا حمايتنا فلستم لنا رجالا، ولا نحن لكم نساء.

وهل يحارب رجال تغلب إلا في سبيل الكرامة، والحفاظ على شرف القبيلة، والدفاع عن العرض؟.

ويشتد الفخر في نهاية المعلقة، وتعمر نفس ابن كلثوم بالعزة والعظمة، فيتراءى له ان بني تغلب هم سادة العالم، وهم ولدوا الناس جميعا، وهم الذين يخشى بأسهم  إذا ذكر الكرم كانوا أهله، وإن ذكر النصر كانوا أهله، يطعمون الناس عندما يشاؤون، ويهلكونهم عندما يشاؤون، ويمنعون ما يريدون، وينزلون حيث يريدون، إذا سخطوا تركوا، وإن رضوا أخذوا، وإن أطيعوا عصموا، وإن عصوا كانوا عارمين.

لهم من الماء صفوه ونميره، وللناس كدره، رأيهم على الملوك يفرض، والضيم في أرضهم لا يحل، والدنيا لهم سراح، والأرض ومَنْ عليها لحكم تغلب تخضع، والجبروت جبلة فيهم، والعظمة غذاء يتغذى به أطفالهم مع لبن الرضاع، حتى إذا بلغ الفطام لهم صبي "تخر له الجبابرة ساجدينا".

واستمع إلى هذا النشيد القومي، الذي ظل التغلبيون يعزفونه، حتى هجاهم شعراء بكر:
نطاعن ما تراخى الناس عنه
ونضرب بالسيوف إذا غشينا
بسمر من قنا الخطي لُدْن
ذوابل أو ببيض يعتلينا
نشق بها رؤوس القوم شقا
ونخليها الرقاب فيختلينا
تخال جماجم الأبطال فيها
وسوقا بالأماعز يرتمينا
نخرّ رؤوسهم في غير بِرّ
فما يدرون ماذا يتقونا
بأي مشيئة عمرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
بأي مشئية عمرو بن هند
نكون لقيلكم فيها قطينا
فإن قناتنا يا عمرو أعيت
على الأعداء قبلك أن تلينا
ورثنا مجد علقمة بن سيف
أباح لنا حصون المجد دينا
ورثتُ مهلهلا والخير منهم
زهيرا نعم ذخرُ الذاخرينا
وعتابا وكلثوما جميعا
بهم نلنا تراث الأكرمينا
وقد علم القبائل من معد
إذا قبب بأبطحها بنينا
بأنا العاصمون بكل كحل
وأنا الباذلون لمجتدينا
وأنا المانعون لما يلينا
إذا ما البيض زايلت الجفونا
وأنا المنعمون إذا قدرنا
وأنا المهلكون إذا أتينا
وأنا الشاربون الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا

وتمتلئ نفس سيّد تغلب بالغرور، ويشتد به الفخر، حتى يخيل إليه أن تغلب "دولة عظمى"، فيقول:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
ملأنا البر حتى ضاق عنـا
وماء البحر نمـلأه  سفينا

لقد انتعشت حركة الفخر، وامتزجت بالحماسة، التي كانت تمثل العنصر المتمم لها، وتفاخر الشعراء بالشجاعة والبطولة، واستهانوا بالموت، وهذا الحصين بن حمام المري يعرض جانبا من معركة خاضها، وأبلى فيها وقومه بلاء عظيما فيقول:
ولما رأيت الود ليس بنافعي
وإن كان يوما ذا كواكب مظلما  
صبرنا وكان الصبر فينا سجية
بأسيافنا يقطعن كفا ومعصما
يفلقن هاما من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما