لوحات ذي الرمة.. عشقه لوصف الصحراء وإبداعه لوحات فنية تعبر عن صلته بها وبالكون وإحساسه الدائم تجاهها بالبهجة والسرور وعمق اللذة والمتعة



ذي الرمة هو غيلان بن عقبة بن مسعود، ولد في فيافي اليمامة، وسكن بعض عمره في العراق، وفيه نزعة دينية إضافة لمعرفته بعلوم عصره في الجدل والمذاهب وعلوم اللغة.

أحب ذو الرمة الصحراء وشغف بوصفها، وهذا جانب قديم في الشعر العربي والذي جدده ذو الرمة فيه هو عشقه لوصف الصحراء وإبداعه لوحات فنية تعبر عن صلته بها وبالكون، فهو لا يصورها صوراً خارجية فقط كسابقيه بل صوراً داخلية من نفسه يسجل المشاهدات وآثارها، والأصوات وتأثيرها وكل ما يحتشد في تلك الصحراء وما يحيطها ساكناً أو متحركاً، يصفه من خلا علاقته به وإحساسه تجاهه واختلاطه بذاته.

وأول ما نلمحه في وصفه هذا إحساسه الدائم تجاه الصحراء بالبهجة والسرور وعمق اللذة والمتعة، وقد كان ماهراً في رسم الحيوان وبث العواطف والحركات النفسية فيه وفي صوره، ولوحاته تفوق لوحات الرساميين الظاهرية، لأنها لوحات شعرية ناطقة حية مستمدة من إحساسه بهذا الحيوان وتعاطفه معه ومشاركته وجدانياً:
برّاقة الجيد واللبات واضحـة -- كأنهـا ظبيـة أفضى بها لبب
بين النهار وبين الليل من عقد -- على جوانبه الأسباط والهُدب

وعلى هذا النحو يُعنى ذو الرمة بتعدد الأوضاع في الصورة في الطبيعة الصامتة والمتحركة والطبيعية، فهو ماهر في تحريك كل أنواع الصور للموجودات في الصحراء:
وقد مالت الجوزاء حتى كأنها -- صوار تدلى من أميل مقابل

ويحس الإنسان أن مخيلة هذا الشاعر لا تنضب رسومها ولا صورها فهو يلاحق المشاهد والمناظر والكائنات بتشخيص مع تجسيم وتركيز وحشد في الصورة، وبطريقة لم يسبقه فيها شاعر عربي من قبل، وهذه الحاسة في التركيز والتجسيم استطاع أن يصور بها ذو الرمة ويركز حتى الزمن نفسه وليست الموجودات من حوله في الصحراء فقط:
ودّع ذكر عيش قد مضى ليس راجعاً -- ودنـيا كظلّ الكـرم كنا نخوضها

ولذي الرمة القدرة على جمع الصور البصرية والسمعية معاً ليصف أصوات الحيوانات والبشر والرعد والجن وكل ما يختلج لسمعه ويتفاقم مع إحساس وحدته ووجوده في الصحراء الواسعة:
للجن بالليل في حافاتها زجل -- كما تجاوب يوم الريح عيشوم
هنّا وهنّا ومن هنّا لهن بهـا -- ذات الشمائل والأيمان هينوم

وصورة الكون كله تشع في نفس ذي الرمة وفي صورة هذه الصحراء، وهي صورة تصدر عن إحساس شامل عميق بالكون جاء من التأمل، ومثل لنا صورة عصر ذي الرمة وما كان عليه العقل العربي من فكر دقيق:
كأننا والقنان القود تحمـلنا -- موج الفرات إذا التج الدياميم

لقد استوحى ذو الرمة الشعر القديم وصوره، ولكنه عرف كيف يجد لنفسه طريقة جديدة في وصف الصحراء بعد تأمل وتعايش نادر معها، لتخرج مخيلته بلوحات تصويرية رائعة وفاتنة، تدل دلالة قاطعة على شاعريته الفذة وعلى تطور العصر الأموي، فقد أشربت روحه روح تأمل واسعة متأثرة أيضاً بروح الإسلام وسماحته ذهبت به إلى روعة التخيل والإحساس بالكون وموجوداته.

أشار أبو الفرج الأصفهاني إلى أن  هناك إجماعاً عند النقاد العرب إن ذا الرمة أحسن أهل الإسلام تشبيهاً . واستحسن ابن قتيبة قوله يصف الظبية وولدها، إذ يقول:
إذا استودعته صفصفاً أو صريمةً -- حذاراً على وسنان يصرعه الكرى
وتهجره إلا اختلاساً نهارها -- تنحَّت ونصَّت جيدها بالمناظر
بكلّ مقيل من ضعاف فواتر -- وكم من محب رهبة العين هاجر

كما جعله ابن طباطبا في كتابه (عيار الشعر) من أفضل الذين شبهوا الشيء بالشيء صورة ولوناً وحركة وهيئة، إذ قال:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
وفراء غرفية أثأى خوارزها كأنه من كلى مفرية سرب
مشلشل ضيعتة بينها الكتب

وهذه  الآراء النقدية التي قيلت في شعر ذي الرمة رفعت من شأن الشاعر في الوصف.
وإننا نتساءل لماذا هذا الإطراء، والرفع من شان الشاعر في هذا المضمار.

فتقوق ذي الرمة في هذا الفن الشعري حقيقة لا يمكن لنا إنكارها ، مثلما لم ينكرها عليه النقاد الذين تناولوا شعره بالنقد والتحليل.

ويمكن القول إن التشكيلات الوصفية، والصور التي رسمها ذو الرمة في شعره، كانت ضرورات لتكوين  حالة حية سعى ذو الرمة لتحقيقها من خلال تسخيره اللغة بشكل دقيق لوصفه الطبيعة ورموزها.

فها هو يخاطب الطلل، قائلاً:
ألم تسأل اليوم الرسوم الدوارس
متى العهد ممن حلها أم كم انقضى
ديار لميِّ ظل من دون صحبتي
بحزوى وهل تدري القفار البسابس
من الدهر مذ جرَّت عليها الراومس
لنفسي بما هاجت عليها وساوس

وقوله:
أمنزلتي ميِّ سلام عليكما
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى
هل الأزمن اللائي مضين رواجع
ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع.

وحين يصف الصحراء يقول:
ومجهولة تيهاء تغضي عيونها -- على البعد إغضاء الدوى غير نائم.

وهو بذلك يقترب كثيراً من وصف الصحراء المجهولة المسالك، التي يظل فيها، وهي حين تغضي عيونها تتشخص بصورة إنسان طال داؤه فعجز عن أن يفتح عينيه.
وكان للسماء نصيب في وصف ذي الرمة لها.


المواضيع الأكثر قراءة