المستشرقون والموضوعية والإنصاف.. الحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة

للحقيقة العلمية فان سؤالاً يفرض نفسه هو: هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟

وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: "لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق.

وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق إلى أن وصل إلى التدخل في تحديد مصطلح الاستشراق نفسه، فقد زعم الغرب في البداية أنه يريد استكشاف الشرق ليعطيه رسالته الحضارية، كونه أكثر حضارة، في الوقت الذي كان الشرق يرزح تحت نير التخلف، وبالتأكيد هذا القول هو ليبرر الاستعمار أمام شعوبه و حروبه وتحركاته الوحشية البعيدة عن الإنسانية عبر رسالة إيديولوجية تمس المشاعر الإنسانية، لذلك ادعى أنه صاحب رسالة حضارية، وأخذت بالتالي ممارساته صفة المشروعية، وكان أن جاء المضمون الاستشراقي ليخدم الاستعمار ومصالحه، فظهر عدد كبير من المستشرقين قاموا بالتشويه المتعمد بهدف نشر الإيديولوجية الاستعمارية، إذ جاءت دراساتهم بعيدة عن الدقة و الموضوعية، وأخذت موقف الإنكار للرسالة والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وإثارة الشبهات حول الإسلام بوجه عام، وحول القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بوجه خاص.

لكن الحقيقة بأن هذا أحد جوانب الاستشراق، إذ هنالك جوانب أخرى هامة تتعلق بالغرض الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التوفيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.

أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية، وتيار المستشرقين الموضوعيين اتسم بأنه أعطى الفكر الحر القادر على الحكم الموضوعي، فقدم صورا رائعة ترصد الحضارة العربية والإسلامية وما قدمته من علوم ومعارف للعالم أجمع عبر التاريخ.

وعندما أقرأ لهؤلاء المستشرقين أصاب بالدهشة لمدى الدقة والموضوعية التي اتصفوا بها، فقد استطاعوا الكتابة عن الشرق بما عجز عن كتابته بنفسه، وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب"، الذي قال فيه:
" الثقافة كانت عربية منذ بداياتها، تحت شلال نور آسيا المتدفق، ومن السماء التي تظلل نهر النيل كتبت جميع الدفقات القوية التي ولدت منها الحضارة العربية الكبرى التي بسطت منذ فجر الزمان معرفتها وآداب سلوكها".

وعن حالة التزوير والتشويه التي تعرضت لها الحضارة العربية حتى قبل ظهور الإسلام ذكر روسي: "إننا باختصار في جهل مطبق، جهل علمي متفق عليه، وإن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمنا بدلا من الساميين الأبطال المختلقين من أصل خيالي، لو أننا تكلمنا عن العرب ذلك الشعب الحقيقي، والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين".

كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية.

إذ قالت في كتابها: " لقد وجدت اللغة العربية تجاوباً من الجماعات، وامتزجت بهم وطبعتهم بطابعها، وكونت تفكيرهم ومداركهم وشكلت قيمهم وثقافتهم، وطبعت حياتهم المادية والعقلية، فأعطت للأجناس المختلفة في القارات الثلاث وجهاً واحداً مميزاً، حتى السلاجقة والأتراك والمماليك والتتار عندما وصلوا إلى الحكم ظلوا بقلوبهم رعايا مخلصين للثقافة العربية وللغتها، بل ولأساليب الحياة العربية وفكرها، حقاً إن قدرة هذه العقلية العربية على طبع الشعوب لرائعة".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال